|
أول لقاء .. بدون حذاء
|
نظر إليها ، فإتسعتْ حدقتاه. و تلون بؤبؤ العين بألوان قوس قزح ، أما لونها هي فلم يميزه تماما من شدة إنبهاره بها. و إزداد بياض العين بياضا ، و سواد العين سوادا. و وقفتْ رموشه كقرون الإستشعار . شعر بأن صورتها قد إنحشرتْ في زوايا عينيه ،، فودَ لو يحبسها في قمقم و يغلق عليها الغطاء. تمنى أن تقبع داخل محجريه، فيغمض عينيه فيراها متوهجة داخله و كأنها تترقرق وسط كرة كريستالية لا يراها إلا هو ، و يفتح عينيه لتتجسد أمامه كصورة منعكسة من ( بروجكتور ) يتحكم في ظهورها و إختفاءها ، و في تكبيرها و تصغيرها. و لأول مرة يحس بالفعل بأن الدنيا تضحك و تغني و تغرد كما العصافير. و تحول الجو الخانق حوله ، إلى نسمات ربيعية ترطب وجهه. و تحول الشارع المغبر إلى ممر معشوشب في حديقة غناء. نظرتْ إليه فزادت سرعة رموشها طلوعا و نزولا ، و كأنها تلتقط صورا متتالية بكاميرا ( ديجيتال ). و إبتسمتْ إبتسامة عريضة دون أن تعرف إلى أي حد إنفرجتْ شفتاها. و رمقته بنظرة ،، فإنكسر مسار نظرتها بين عينيه الجريئتين و بين الأرض في حركة دؤوبة متواصلة دونما إنقطاع ، و كأنها تحثه على نزال العشق و الوله في تحدٍ يشبه تحدي ( الديكة ). ثم إبتسمت له ، فأشرقت أمامه شموسا أخرى. فنسي توبيخ أبيه له اليوم ، عندما عرف أنه جمَد سنته الدراسية ، و نسي ( المطرقة ) التي هوتْ بها فتاته السابقة فأدمتْ رأسه و قلبه ، و نسي أنه دفع آخر ما يملك في فاتورة ( فطور ) دسم لشلة من البنات هذا الصباح ، و أنه ربما رجع لبيته مشيا على الأقدام. نسى كل شيء و ذاب في الصورة و اللحظة. كستْ روحه مسحة من الطمأنينة و الراحة ، و حطَتْ على وسادة من الأمان الداخلي ، و تمدَدتْ على تلة من رمال الأمل الذي يدغدغ كل ذرة في كيانه. فأبتسم لها و تخيل أنها تقول في سرها : ليتني أستطيع أن ألتقط إبتسامتك و أضعها في حقيبتي كى تقبع بجوار أشيائي الصغيرة ، أعبث بها و أنا في مدرج الكلية ، و في البص ، و في الكافيتيريا ، أو أضعها صورة على شاشة جوالي. قال لها : بصوت مرتجف ، و هو يخاف أن تصده : صباح الخير . كيف ............. ؟ و لم تعرف عن ( كيفية ) ماذا يسأل. فقالت له و هي تطلق ضحكة كلها غنج و دلال : صباح النور فإنبثق نور من دواخله غمر كل إحساسه ،، و شعر أنه ( مخدَر ) تماما ، و أحس بحرارة تلسع نافوخه ،، فتصبب عرقا. جلسا سويا على المقعد الإسمنتي ، فأحس كأنه مقعد وثير. تحادثا طويلا ،، يتكلم دون إنقطاع. تعبث بيد حقيبتها و بالجوال الأنيق . و يعبث بمفتاح ( درج دولابه ) الذي يشاركه فيه أخوه الأصغر. تصلح من هندامها و من خصلاتها الشاردة على جبينها. ينظر إلى حذائه المليء بالغبار ، يرجع رجليه للوراء في محاولة لإخفاء جواربه المقطوعة من الجوانب. تبلل شفتيها بلسانها بين الفينة و الأخرى و كأنها غير واثقة من نداوتهما. يقضم أظافره حتى وصل ( اللحم الحى ). قالت أن أخاها سيحضر ليأخذها للبيت ( بالكامري ) ، و تريد أن تخبره بأن لا يأتي حتى يستطيع هو أن يقوم بتوصيلها. تحسس جيوبه التي ينعق فيهما البوم ،، و تأبى حتى العناكب من السكنى فيهما. قال أن ( عربيته ) في الورشة. جف حلقه ،، و لم يجد ريقا ليزدرده. قالت إنها عطشى . تجاهل طلبها ،، فهو يعلم أن صاحب البوفيه لن يعطيه ( قطرة ماء ) حتى يسدد ما عليه من ديون. إستعمل كل مهاراته الكلامية ،، و حديثه العذب في أن يجعلها تصرف النظر عن العطش و عن دعوتها إلى مطعم فاخر. قامت مستأذنة. قال : متى أراك ؟ قالت : أنا كل يوم هنا في الغد ،، أتى و هو ينتعل حذاء صديقه بعد أن وعده بأنه سيمشي به على مهل ، و أنه سيتحاشى الإرتطام بالحجارة ، و سيتجنب كل المياة المدلوقة على قارعة الطريق. في جيبه تقبع بضع جنيهات تكفي لكوبين من العصير و ساندويتشين و جولة قصيرة ( بالركشة ). رآها تجلس في عربة فارهة بالقرب من شاب أنيق ، و رأسيهما قاب قوسين أو أدنى من الإلتحام. إقترب منها ،، ثم إنحنى كما جرسونات فندق خمسة نجوم و قال لها : صباح الخير ،، ممكن تنزلي نقعد هناك. نظرت إليه نظرة ملأته شكا و ريبة. قالت له : شنو قلة الذوق دي ،، مش شايفني قاعدة مع واحد و بتكلم معاه. ثم نظرتْ إليه نظرة ذات مغزى . فبهت الذي كذب. و عرف أنها غاصت في دواخله بعد كل تلك ( الإرهاصات ). فتحت باب السيارة و قالت له بصوت أحس فيه كل لؤم الدنيا : إنت عارف منو القاعد في العربية دة ؟ أنا و هو شبه مخطوبين. و لم يطرف لها جفن و هي تنتزع أحشاء أمله الوليد . فضحك ضحكة هستيرية لفتتْ إنتباه الجالسين و الجالسات . لم يأبه للذين يحملقون فيه. كرر ضحكاته بوتيرة تصاعدية ، و هو يتلفت وراءه كالمأخوذ . و مضى بعيدا و هو غير عابيء بحذاء صاحبه ،، ( فشات ) كل حجر صادفه ،، و ركل أرجل المقاعد الأسمنتية ،، و تعمد المشي على كل المياة المتناثرة هنا و هناك. و لعن أشياءا كثيرة في سره ،، لم يكن إبليس ضمن من لعنهم.
|
|
|
|
|
|