قبل أن ألتقيه رسم عنه خيالي ما يؤطِّر به الناس عادةً أشكالهم ومضامينهم إذا ما إمتلكوا ثروة الشهرة والنجومية والريادة في إنجازاتهم وإبداعهم ، ثم إلتقيته وتجاذبت معه أطراف الحديث ففاق ما حسبته إندهاشاً قد أصابني كل توقعاتي لما يمكن أن يُطلِق عليه الناس تواضعاً وصفاءاً ووُداً خالصاً ، صلاح أوندي رجلٌ رسم على لوحة الحياة بعضاً مما كان ضائعاً ومفقوداً في حياتنا اللاهثة وراء اللا شيء ، لم يكن يعتد بالألقاب ولا المسافات العمرية والعلمية والمهنية إذا ما إستوقفه أحد ليسأله أو يتجاذب معه بعض الشجون عن الفن والإبداع و الثقافة ، يحدثك وعلى محيَّاه الطمئنينة المُطلقة بلا سبب ، فهو على ما يبدو عندما إلتقيته كان قد تخطى مرحلة (الملموس) الزائل إلى مرحلة (المضمون) الخالد ، كان يحكي حكايته وحكايات آخرين بطلاقة من يعرفك منذ عشرات السنين ، ثم يُشعرك بأنك آخر ما تبقى له في الحياة ليحكي له ويبوح ، لا يبخل عليك بالإهتمام والإنصات ويوهمك أحياناً أنه يستفيد من ملاحظاتك ومما تقول ، ثم يستدرك ليعقِب فيما كنت خائضاً فيه لتفاجأ بأنه عالمٌ جهبز وموسوعة فيما كنت تخاطبه فيه ، بدأ نشاطه المهني كمخرج تلفزيوني في عطبره وكانت أول أعماله ما يُطلق عليه الآن (فيديو كليب) لملحمة محمد الأمين وأم بلينه السنوسي ، ثم جاء إلى الخرطوم في منتصف الستينات ليعمل في تلفزيون السودان فأصبح من رواد فن الإخراج التلفزيوني حينما كان التلفزيون (واحداً) لا ثاني له وكانت النجومية معنىً حقيقياً للتفرد والإختلاف والإبداع ، صلاح أوندي شاعر مطبوع وموسيقي محترف من الدرجة الأولى ، وكانت له إهتمامات أدبية وثقافية ترجمها عبر كثير من الكتابات الشعرية أهمها وأشهرها قصيدة عامية تحكي عن قضية تهجير أهالي حلفا إبان بناء السد العالي ، فيها من المعاني والمشاعر والصور الشعرية ما يجعلك تؤمن بآرائه حول (وحدوية) الفنون وتواثقها وإرتباطها بعضاً ببعض ، فقد كان صلاح أوندي كلما إلتقيته وتجاذبنا أطراف الحديث عن الفنون والأدب دائم الإشارة إلى أن الفنون بأنواعها المختلفة يجمعها قالب واحد لايمكن فصلهُ عن أشكالها ومضامينها ، لذلك كان فخوراً بإهتماماته الموسيقية التي إنكفأ عليها في وقت مبكر من صباه ، ثم أتبع ذلك بكتابة الشعر ، وفي خضم كل ذلك كان آلةً هادرة وبرّاقة في صناعة وفن الإخراج التلفزيوني ، الأستاذ الإعلامي المخضرم حسين خوجلي كان لمَّاحاً وذكياً ووفياً حين جمع حوله وحول فضائية أم درمان خصوصاً في البدايات الرواد من الرعيل الأول الذين قام على أكتافهم العمل التلفزيوني بالسودان من أمثال صلاح أوندي وعصام الدين الصائغ وفريد عبد الوهاب ، لأن هؤلاء لهم القدرة على العمل والعطاء والإبداع بأبسط الأمكانيات والأدوات فضلاً عن ما حصدوه من خبرات طويلة ومشرقة ، صلاح أوندي ترك في نفسي أثراً عميقاً صاخباً وهادئاً في ذات الوقت ، لا تملك إلا أن تهبه أعلى درجات محبتك ووفائك ، لأنه هالة من وُدٍ ساطع وأدب جم و تواضع يُخجل مرتادي عالمه البسيط الشجي .. أظلمت الدنيا بغيابك أيها الحبيب الوفي الصدوق .. لكن لا نقول إلا ما يرضي رب العالمين (إنا لله و إنا إليه راجعون) .. (يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضيةً مرضية فأدخلي في عبادي وأدخلي جنتي) .. اللهم أرحم صلاح أوندي وأغفر له وأجعل مثواه الفردوس الأعلى وأكرمة بمتعة النظر إلى وجهك الكريم وأجزه عنا عطائه فينا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة