خفق قلبي بشدة حينما هبطت في مطار الخرطوم بعد غيبة عشرين عاماً..كل شيء تغير إلا هذه الشمس الحارقة..رجال المراسم استقبلوني عند مدخل الطائرة..على مقربة من سلم الطائرة كانت هنالك سيارة من مجلس الوزراء مخصصة لخدمتي ..ابني الصغير توبي همس في أذني "تبدو رجلاً مهماً يا دادي"..فيما كانت زوجتي مادلين تبدو مذهولة..طوال فترة زواجنا لم أكن أحدثها كثيراً عن أهلي وعشيرتي ..أحياناً كانت تظن أنني مقطوع من شجرة..وحينما تحسن الظن قليلاً تعتقد أنها صنعتني. التقيتها في مدرسة تعليم اللغة الإنجليزية في بوسطن ..كانت ودودة مع كل الطلاب الذين جاؤوا من مشارق الدنيا ومغاربها ..لشخص محروم من الحنان كانت تلك المعاملة الرقيقة تعني شيئاً من الحب..كنت أركض وراءها نحو ثلاث سنوات حتى اقتنعت بدراسة الأمر..كانت تكبرني بعدد قليل من السنوات..لم تقتنع بجدوى الشراكة إلا حينما أطفأت ذات ليلة الأنوار. جلست وأسرتي في المقعد الخلفي ..مرافقي الذي يبدو وكأنه حارس شخصي نبهني أن مجموعات ضخمة من أسرتي وقيادات حزب التغيير تنتظر بالخارج..لم أكترث كثيراً كأنه كان يتحدث عن شخص آخر..اقترح أن نسلك طريقاً آخر يقودنا مباشرة إلى فندق البرج..بدأت زوجتي تحاول أن تفهم الحوار الدائر ..طلبت منه أن يمضي إلى حيث الجماهير ..رجوته أن يستوصي خيراً بأفراد أسرتي، وأن يبقيهم في السيارة..دخلت السيارة في أمواج البشر..كانوا يحملون صورتي ويهتفون باسمي..فتحت زوجتي النافذة وبدأت تلوح بيديها للحشود ..توبي كان خائفاً ولم يستوعب الأمر..فتح الحارس نافذة الشمس في سقف السيارة..انتصبت واقفاً أحي الناس التي كانت تهتف بدر الدين للتغيير. قبل أن أدلف إلى غرفتي بالفندق وجدت عدداً من الشباب والنسوة ينتظرون في الاستقبال ..شقيقاتي وأشقائي ..افتقدت أمي التي كانت وحدها تفهمني.. توفت بعيد اختفائي بعامين..لم أشعر بأيّ وشائج انتماء ..كنت من عالم مختلف ..وجوههم بدت لي شاحبة وملابسهم متسخة..كانوا جميعاً يبكون..كل واحد يحضنني باحتفاء شديد..أخرجني من الورطة مرافقي البدين، أخبرهم أن رئيس الوزراء في انتظاري، وإنني سأزور مدينتي في الصباح. بدأت أسترجع حكايتي وأنا مستلق على الفراش الوثير..كنت دائماً أبدو وكأنني شخص متمرد..أحاول أن أفعل أيّ شيء بتوقيتي الخاص..زادت هذه الملامح في الثانوية..اشتبكت مع أستاذ الرياضيات فاستعان بالصول..حينما دخل الصول بالباب قفزت من الشباك..لم أكن أدري مقصدي..تركت المدينة من خلفي ..فجأة سمعت صوت القطار..تخلصت من قميص المدرسة واكتفيت ب(تي شيرت )كنت ألبسه من تحت الزي المدرسي..تسلقت القطار دون سابق تجربة..شاب مد لي بيده..وجدت نفسي بين عدد من الأصدقاء الجدد.. كانت وجهة القطار إلى مدينة بورتسودان ..من بين هؤلاء تكونت أول خلية تعارف. لم يكن الميناء إلا محطة في حياتي..كنت دائماً في حالة هروب من الصول والكرباج..إحساس أسرتي بأنني فاشل يجعلني أكره حتى نفسي..الحقيقة أنهم لم يفهمونني أبداً ..كنت أبحث عن الحرية المطلقة فيما كان مسار النجاح عندهم مرسوم بالخط الواصل بين المدرسة والكرباج ..في الميناء أقنعت بحاراً أن يخبئني في جوف السفينة المتجهة إلى اليونان..كانت الفكرة ساذجة لمراهق يبحث عن منفذ للهروب ..فعلها البحار الأفريقي العجوز بشكل آخر.. وظفني في السفينة ..حينما وصلت إلى اليابسة لم أعد مطلقاً إلى البحر. بعد سنوات تحصلت على تأشيرة سياحة للولايات المتحدة ضمن فوج من اليونانيين..هنالك وجدت الدنيا التي أبحث عنها..جربت كل شيء ..النوم في الشوارع ..الرقص بجنون في الملاهي ..أمضي إلى الكنيسة ثم أخرج إلى المسجد..حاولت أن أصبح موسيقاراً..نجحت في مهنة سائق ودليل سياحي ..التقاني أمير عربي أقرضته مائة دولار في حانة قمار بنيوجرسي..بات صديقي..حينما عاد إلى بلده أرسل لي عشرة آلاف دولار بدأت بها تجارة بيع السجاد الفارسي..كنت أستغل بعض ثقافتي الشرقية في الترويج لبضاعتي المزجاة ..صرت بعد سنوات قليلة أملك مالاً كثيراً..بعدها قفزت إلى ملعب السياسة تقف من ورائي مادلين..دخلت في البداية إلى المجلس البلدي في برايتون..القفزة الكبرى حينما ترشحت إلى الكونغرس..خسرت المعركة لكن كسبت ثقة الرئيس الجديد..دون مقدمات وجدت نفسي في طاقم المستشارين . قطع تفكيري رنين الهاتف..كان الرجل البدين يذكرني بموعد رئيس الوزراء..وقتها عدت لمادلين لتراجع معي ما سأقوله في الاجتماع المهم..دون مقدمات سألتني مادلين ماذا لو طلب منك رئيس الوزراء أن تشغل منصباً في بلدك ممثلاً لحزب التغيير..كان ذلك سؤالاً صعباً للغاية. assayha
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة