كان الحارس يتثاءب حينما مرّ الرجل الضخم ذو الجلباب الأبيض.. لكن آدم صباحي الحارس الآخر الذي كان مشغولاً في الناحية الأخرى بإعداد وجبة (البوش). استرعى انتباهه الزائر الذي كان يزيد من خطواته ويلتفت إلى الوراء بين الحين والآخر.. ترك صباحي ما في يده وركز بصره في ذاك الاتجاه .. فاستعجب من غرابة طريقة مشي الزائر الذي كان كمن يغرس أقدامه في الوحل.. ترك صباحي ما في يده واستجمع خبراته السابقة كرقيب في استخبارات الجيش.. نهض متتبعاً خطى الزائر الذي ذاب في زحمة الطلاب في ذاك المساء الصيفي.. حينما همّ بالعودة لمح شبح الزائر بالقرب من كافتيريا المجمع السكني. بُعيْد لحظات تجمّع الطلاب وفي دواخلهم نصرة ضيفهم على الحارس (اللئيم).. بين الفينة والأخرى يزيد حماس الطلاب لمعرفة هوية الرجل الذي كان يرتدي جُلْباباً أبيض وعمامة ضخمة.. بُعيد لحظات سرت همهمة حينما امتنع الضيف من إخراج أي بطاقة تُثبت هويته، وحاول الضيف حسم الجدل مع المحقّق بعيدًا عن أعين الطلاب.. الهمس ارتفع "دا زول أمن".. هنا كانت المهمة مزدوجة للحارس المخضرم .. كان عليه حماية الشخصية الغامضة وفي ذات الوقت كشف غموضها.. لكن حينما ازدادت الجموع وحاول الحارس الخروج من الزحمة دافعاً الضيف إلى الأمام.. طالب متحمس حاول الاعتداء على الجاسوس فجذب العمامة إلى الأرض.. هنا انكشف المستور.. الضيف لم يكن سوى فتاة حسناء مشطت شعرها على الطريقة الإفريقية ثم خبّأته تحت العمامة. هنا انقسم الحضور.. فريق من (الشفوت) تعاطفوا مع الحسناء وحاولوا تخليصها من الأسر وفي نفوسهم شيء من حتى.. آخرون من المتدينين استنكروا الحادثة التي كانت في أحسن الافتراضات تشبُّهاً بالرجال.. حسمت الجدل عربة شرطة النظام العام التي وصلت إلى المسرح بناء على اتصال من الحارس الأخر الذي كاد أن ينام.. عربة الشرطة سحبت الحدث وتركت الحديث في تلك الليلة.. كانت الروايات تتناسل فيما العربة تغادر أبواب داخلية الطلاب. بعد ليلة نصفها كوابيس مثلت المتهمة ابتسام التوم الشيخ أمام القاضي في الصباح الباكر.. كانت ترتدي ذات الجلباب الرجالي رغم أن المحقق أراده في قائمة المعروضات.. دخلت المتهمة ومن ورائها نفر كثير من العاملين بالمحكمة والمتعاملين معها في ذاك الصباح المشرق .. استغرب القاضي من قوة عين المتهمة التي لم تكن تنظر إلى الأرض.. بعد أن راجع القاضي البيانات الأولية توجه بسؤال المتهمة عن اسمها وعمرها وعنوانها. قبل أن ترد طلبت من القاضي إخلاء القاعة لأنها تريد أن تسرد معلومات في غاية الحساسية .. التفت القاضي يميناً ويساراً ثم همس في إذن المتحري.. كان مساعد الشرطة يوحي للقاضي أن ابتسام مجرد رأس الخيط في عصابة ضخمة متخصصة في الدعارة وأن المصلحة العامة تقتضي تجاوز القاعدة القانونية التي توجب علانية المحاكمات.. بعدها وبلا تردد طلب مولانا من الحضور الانصراف ثم طلب من حاجب المحكمة إغلاق الأبواب. لم تقو ابتسام التوم على الوقوف.. فقدت ذاك التماسك وهى تسرد قصتها.. قبل ستة وعشرين عاماً ولدتني أمي في أقاصي الريف.. دون أن تتبين القابلة منحتني بطاقة أنثى.. بُعيد أسبوع تم ختاني كعادة أهلي في تلك المضارب.. كنت الرابعة بعد ثلاثة صبيان.. عشتُ طفولة سعيدة أرتع وأمرح بين أشقائي .. حينما بلغت العاشرة كانت أمي تجذبني من الشارع وتمنعني من اللعب مع الصبيان.. لم أدرك مأساتي إلا حينما مضيت إلى داخلية الطالبات في المدرسة المتوسطة.. كنت أشعر بالغربة بين زميلاتي. أزدادت المعاناة حينما تأخرت في المحيض .. لم تأت زائرتي رغم أنني وصلت سن السادسة عشرة.. جاءت أمي بي إلى الخرطوم وقابلنا الطبيب.. شخّص الرجل حالتي بنقص في هرمونات معينة.. كان للعلاج آثار مذهلة.. تغيّرت ملامحي البيولوجية بشكل واضح.. ارتفع صدري وانخفض صوتي وخمد تمردي ورضيت بواقعي.. تظاهرت أن زائرة النساء تزورني حتى أهدّئ من قلق أمي. حينما ولجت الجامعة لدراسة التمريض تفتحت عينيّ على مأساتي .. أدركت أنني لم أكن أثنى في يوم من الأيام.. كان الوقت متأخراً لإدراك الحقيقة وقررت الرضاء بهذا الواقع المؤلم .. في كل خميس كنت أتسلل إلى داخلية الطلاب .. أشعر بالسعادة حينما أجلس أمام التلفاز وسط الطلاب. قبل أن تكمل قصتها أحالها القاضي إلى الطبيب المختص وقرر النظر في القضية، بعد ثلاثة أسابيع في جلسة سرية أخرى. assayha
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة