حينما طرق الخواجة صاحب اللحية الكثة أبواب والي الخرطوم كانت معالم الحيرة تكسو المجلس.. جاء الغريب بصحبة الدكتور أحمد بلال وزير الصحة وقتها.. كان يطلب من المتعافي فقط قطعة أرض واسعة لإقامة مستشفى عالمي لجراحة القلب يعالج المرضى بالمجان تماماً.. الخدمة المقترحة تشمل شراء تذاكر الطيران للمرضى القادمين من الخارج بجانب إنشاء فندق لإيواء المرافقين.. الوالي والوزير يتبادلان نظرات استغراب ثم يصرخ بلال هذا الخواجة مجنون. خلال عامين تتحول مزرعة مهملة في ضاحية سوبا إلى جنة في أرض الله.. تم إنشاء محطة توليد كهربائية تعتمد على الطاقة الشمسية كانت الأكبر من نوعها في قارة أفريقيا.. بعد أن فرغ جينوا سترادا من بناء مشفى السلام لجراحة القلب استفاد من الحاويات التي نقلت أحدث الأجهزة فبنى منها مجمعاً سكنياً لنحو سبعين من الكوادر الطبية الأوربية.. تمددت الخدمات الطبية لمنظمة (أميرجنسي) الإيطالية وشملت الفاشر وبورتسودان وحي مايو جنوب الخرطوم..اضطروا للانسحاب من نيالا بعد اختطاف أحد منسوبي المنظمة. البداية لم تكن في الخرطوم.. بعد أن أنهي الشاب جينو دراسة الطب بجامعة ميلان الإيطالية اتجه للولايات المتحدة وبريطانيا لمزيد من الدراسة في تخصص الطوارئ الذي سيلازمه في مسار حياته.. حاول جينو سترادا أن يصنع السلام من مسارح الحرب.. مضى طبيباً متطوعاً إلى جبهات القتال في العراق وأفغانستان والبوسنة وتايلاند والصومال.. حصيلة الرحلة كانت كتابين ترجما إلى أكثر من لغة.. لكن رحلة الاقتراب من الموت عززت للرجل فكرة إنشاء مراكز علاجية تتخصص في تقديم الخدمات للمواطنين في مناطق النزاعات.. بعون من زوجته تريزا وعدد قليل جداً من أصدقائه أسس استرادا منظمة أميرجنسي (الطوارئ)..الآن تجاوز عدد الذين داوتهم المنظمة حاجز الثمانية ملايين مواطن في ثلاث وعشرين دولة حول العالم. كل الدنيا أقرت بالخدمات الجليلة التي يقدمها هذا الرجل والذي اختار بمحض إرادته أن يعيش وحيداً في السودان.. توفيت زوجته التي شاركته الحلم بعد افتتاح مشفى السلام بعامين.. تقدمت ابنته ساشيلا لملء فراغ الأم.. تم امتداح التجربة عبر تكريمه بحائزة نوبل البديلة في العام ٢٠١٥ ثم في العام الذي يليه فاز بجائزة أخرى في كوريا الجنوبية.. حتى جائزة الأوسكار اقتربت من مجاله حينما رشح فيلم وثائقي عن رحلة ثمانية أطفال من كيقالي برواندا للخرطوم لتلقي العلاج.. في بلده إيطاليا طُلب منه أن يترشح لرئاسة الجمهورية، إلا أنه رفض فكرة الاقتراب من عالم السياسة الذي يجعله يتحسس جلده بسبب الحساسية الزائدة من هذه النخب التي تتسبب في إشاعة الحروب. سألته خلال لقاء تلفزيوني عن إسهام القطاع الخاص السوداني في دعم هذا المشروع الإنساني.. بصراحة (الخواجات ) قال قليل جداً ..امتدح الحكومة السودانية والقطاع الخاص في إيطاليا في دعمهم الكبير لهذا المشروع ..قال لي إنه الآن يفكر في تدريب الكوادر السودانية حتى تسد الفراغ بعدما يرحل.. غضب حينما سألته لماذا لا تفكرون في علاج الأثرياء بمقابل مادي.. قال إن فلسفتهم أن كل مواطن في أي بقعة من الأرض يستحق عناية طبية مجانية .. الإن جحافل المرضى تترى نحو سوبا من الفلبين والأردن وسيراليون وإثيوبيا وتشاد. بصراحة.. ألا يستحق هذا الخواجة النبيل منحه الجنسية السودانية بعد عشر سنوات من الخدمة الممتازة.. عفواً ذاك الامتياز ظل حكراً على لاعبي كرة القدم القادمين من أدغال إفريقيا دون عطاء يُذكر.. ماذا لو تذكرت رئاسة الجمهورية هذا الرجل ومنحته نيشان البطولة .. الرجل يستحق وأكثر.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة