في ظلال شجرة الجميزالعتيقة جوار المسيد إنعقدت المحكمة. جاء سعد الشهير بأبو الجاز وكان اكتسب الاسم منذ سنوات بسبب بيعه للجاز المسروق أيام عمله كسائق لجرّار في إحدي المؤسسات الحكومية الزراعية. جاء يرتدي جلبابا فخما وعمامة ضخمة، وبدا بذقنه الطويلة الورعة التي تكاد تلامس الأرض، وغرة الصلاة التي تغطي جبهته، كأنه القاضي وليس المتهم.
افتتح شيخ الطيب المحكمة: نبدأ الجلسة يا اخوان، وين حاجة ست البنات جاءت ست البنات تسحب معها ابنتها . ابنتها كانت لا تزال قاصرا، وكانت جافة الجسم مثل عود من العشر وقد لفت حول رأسها قطعة قماش أزرق وارتدت فستانا طويلا من قماش الشيت الرخيص. فبدت أشبه ب (الحقن برو) او عروس القصب باللغة النوبية..
افتتح شيخ الطيب المحكمة بعبارته الشهيرة التي يستخدمها حين يكون مزاجه معتدلا: لا بأس. شيخ النور مساعد القاضي كان يقول ضاحكا أن شيخ الطيب يصر على استخدام بعض عبارات العربية الفصحى غير المفهومة، ليفند بها مزاعم من اعترضوا علي تعيينه كقاض شعبي.
كانت قد حضرت آنذاك لجنة يرؤسها قاض للفصل في الطعون المقدمة ضده، كان صاحب الطعن الاول رجل درس في الازهر الشريف ثم عاد ليستقر في القرية وبسبب مطاردته لسبل العيش بدأ ينسى تدريجيا كل ما درسه في الازهر، ضاعت ألفية ابن مالك في متاهة السنوات والتفاسير وفقه السنة أثناء مطاردة الأرزاق، وكان كل ما جاء شخص يستفتيه في امر ما ويكتشف انه نسي الجزء الشرعي الخاص بتلك القضية يعلّق قائلا: المعايش جبارة.
وحين قرر فجأة العودة عن مساره العلماني بعد ان مضت السنوات، لم يكن قد تبقى شيئ من علمه السالف سوي بعض الاحاديث الضعيفة والروايات غير المؤكدة.
ضحك شيخ النور حين وقف حاج الأمين ليعظ الناس بعد أداء صلاة التراويح في المسيد وقال :
زولك دة خلي بالك لو كان شغال في الازهر دة بوّاب في العشرة سنين العداهم فيه كان بقي نبي!
وضحك شيخ الطيب وقال هو اصلا قالو مشي يشتغل بوّاب في الازهر ، لقي مرتب البواب تلاتة جنيه ومرتب الطالب أربعة جنيه، قام اشتغل طالب!
قال حاج الأمين أمام لجنة الطعون :
الزول دة بتذكر المؤنت وبتأنث المذكرة!
علّق رئيس لجنة الطعون : ما مشكلة، الدناقلة كلهم كدة!.
قال ود التاجر: الزول دة ما بتعرف تكتب!
أمر القاضي باحضار ورقة وقلم، أمسك شيخ الطيب بتلابيب القلم كأنه يمسك منجلا وأعلن مفتتحا الاملاء :
بسم الله نبدأ…
تعاطف القاضي مع شيخ الطيب، فلم يلجأ لعبارات معقدة تجعل التلميذ العتيق يرسب في مادة اللغة العربية.أعلن القاضي متذكرا مقطعا قديما من ايام المدرسة: الولد ولد البلد.
كتب شيخ الطيب: الود ولد البيت.
البنت بنت البلد.
كتب شيخ الطيب: البت بت البيت!
قال القاضي: كانت حليمة تعمل بائعة للبن.
وكتب شيخ الطيب:
كانت حليمة تعمل وتبيع البن!
طلب شيخ الطيب ورقة اخري لأن الورقة امتلأت وتدفقت الحروف حتي سالت علي المنضدة العتيقة في مبني البلدية الذي بناه الانجليز.
قال القاضي: ودخلت نملة واخذت حبة!
فكتب شيخ الطيب: ودخلت نملة واخدت واحدة
قال القاضي: المتهم برئ حتى تثبت إدانته!
فكتب شيخ الطيب: المتهم غير برئ حتى تثبت إدانته!
ضحك القاضي بحزم رسمي حين رأي الخط الكبير والكلمات الضخمة الشبيهة بعربات قطار، وقال لشيخ الطيب: انت كنت شغال شنو زمان؟
حك شيخ الطيب شعره الاشيب وقال : سواق قطر.
قال القاضي: عشان كدة.
قال القاضي هامسا: ستصبح قاضيا، كيف لا تعرف أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته؟
قال شيخ الطيب: كان ذلك حين كان هناك قانون! الآن اللص في الحكومة وأصحاب الحقوق يموتون بالجوع!
تغاضى القاضي عن الميول الثورية للمرشح العتيق وأصدر قراره : يعيّن شيخ الطيب قاضيا شعبيا.
افتتح شيخ الطيب المحكمة بخبطة علي المنضدة و بعبارته الشهيرة : لابأس. .. ثم أردف متسائلا : ريحة العرقي دي شنو؟
تلفت الجميع بحثا عن مصدر الرائحة التي كانت مختلطة بكثافة مع رائحة القيظ ورائحة نوار شجر السنط، وكأن الناس كانوا في انتظار قرار من القاضي لينتبهوا للرائحة.
نادي عبد العاطي علي الشاكية. تقدمت مع ابنتها، وحين أشار لها القاضي لتحكي شكواها قالت مشيرة الي سعد أبو الجاز: الراجل دة قابل بتي في السوق وقال ليها أنا بقيت مسئول كبير، دخلت المؤتمر الوطني، ويمكن يعملوني وزير إقليمي، والوزير لا زم يكون عنده أقل شئ مرتين، واحدة للبيت والأولاد وواحدة للسفر والمؤامرات الدولية ! .
قاطعها شيخ النور مساعد القاضي: قصدك المؤتمرات الدولية يمكن!
قالت المرأة دون إهتمام بوجوب إحترام هيبة مساعد القاضي: مؤتمرات، مؤامرات، كله كلام فارغ ومصاريف ندفعها نحن المساكين!!
قاطعهم القاضي مدعيا عدم الفهم : المشكلة شنو طيب لو بقى وزير إقليمي ولا إتحادي وعرّس مرة تانية؟ ما الحكومة كلها قاعدة تعرّس مثنى وثلاث بالدس وبالعلن!
قالت ست البنات: الصبر يا مولانا، أنا بقول الزول دة قال كدة لبتي ولسة ما خلصت كلامي، بعدين مين جاب سيرة الحكومة؟ إنت ما داير وظيفتك دي ولا شنو؟!.
ارتفع صوت (المتهم المرشح للوزارة): يا مرة ما تخافي الله البت دي انتي براكي ما جيتي قلتي لي تعال عرّسها!
قالت ست البنات: يوم السبت رسلت البت السوق تشتري خضار ولحمة، خالها رسل لينا قال جايي يقعد معانا يومين، طبعا هو مغترب زي ما انت عارف،
وقال شيخ الطيب حتي لا يعطي سعد ابو الجاز الفرصة ليقاطع المرأة: واها بعدين..
البت مارقة من السوق وقّفها الراجل العايب دة وقال ليها دايرك في كلمتين، أنا خلاص قرّبت أبقى وزير ودايرك في موضوع. وكت وقفت ، قال ليها نتقابل في المريق بالليل الساعة تمانية!
وقال القاضي : واها ما قال ليها دايرها في شنوبالضبط لأن قصة حيبقى وزير ممكن يشرحها في الشارع، ولا الوزارة بقت فعل فاضح الزمن دة الا يمشوا ليها الحواشات بالليل؟
قالت ست البنات بصبر نافذ: وزارة ايه يا مولانا، بالليل وجوة المريق حيكون داير يمشط ليها شعرها؟
قال شيخ النور مساعد القاضي: كان ما أخاف الكضب، دة شكلو كدة شروع في الزنا والعياذ بالله!
قال سعد ابو الجاز مهتاجا: يا رجل اتقي الله البخليك تقول كدة شنو؟
وقال شيخ النور: امال داير تقابلها في المريق بالليل تلعبوا صفرجت يعني؟!
خبط شيخ الطيب التربيزة بعصاه حتي كادت تتحطم وقال هدوء من فضلكم.
واصل سعد ابو الجاز صراخه: الولية دي دايراني أعرس بتها كان بالحق ولا بالباطل.
أصدر شيخ الطيب أمرا: اي واحد يتكلم بدون اذن المحكمة حأديه اربعة وعشرين ساعة في الحراسة.
صمت الناس وتعالي فقط صوت ضحكات طفل يبدو انه لم يحمل تهديد القاضي محمل الجد، أو انه لم يكن يلاحظ وجود فرق بين البقاء في السجن او في خارجه.
همس شيخ الطيب في اذن عبد العاطي فارتفع صوته، المتهم سعد ابو الجاز يتقدم الي الامام. تقدم سعد أبو الجاز، قال له القاضي: رايك شنو في اتهام المرة دي.
كان يضع عدة اقلام فوق جيب الجلابية الفخمة، وكان واضحا أنه بذقنه التي تلامس الأرض، وخبرته كسارق حكومي، وزان وطني، مؤهل تماما لشائعة تقلده الوشيك لمنصب الوزير.
في تلك اللحظة حين واجه المحكمة بدا جليا انه كان مصدر رائحة العرقي.
كانت رائحة العرقي تكاد تقتلع الأنوف، سأله شيخ الطيب : انت شارب حاجة؟
علّق شيخ النور : شكلو كدة المرة دي استحم بيه، مسكين الوزارة كمان ما ساهلة ومسئوليتها كتيرة لازم يستعد ليها.!
شرح المتهم الصبغة الخيرية العلاجية لمجونه الليلي: والله يا مولانا بالليل بطني كركبت شوية، مشينا كرامة رجوع ولد ناس حاج الأمين من العراق، قلنا ضروري نمشي نحمد السلامة، الظروف بقت صعبة لكن السلام على الزول العائد من الحرب، عمل خير. كانوا ضابحين، انت عارف مع التضخم أسعار اللحم بقت ضخمة، اللحم بقى زي الدهب الناس تشتريه بالوقية، وبعد دة غالي. تقلت شوية في اللحمة، بالليل تعبت مشيت جبت لي نص.
وقال شيخ الطيب: اها وانشاء الله العلاج نفع وبقيت كويس!
قال المتهم رافعا يديه للسماء : الحمدلله تمام التمام. نعمة من الله، الدوا ذاته زي ما عارف يا مولانا بقى غالي شديد ومقابلة عزرائيل أسهل من مقابلة الدكتور. ومستشفيات بقت زي الفنادق، تدفع ترقد. ما تدفع، برضو ترقد لكن في الواطة، في القبر! لكن ربك كريم، إن الواحد يتوفق يلقى علاج بسهولة لمرضه بدون يقابل دكتور ولا يمشي أجزخانة!
قال القاضي : طيب موضوع السكر دة نجيه بعدين هسع رايك شنو في كلام الناس ديل.
وضع سعد ابو الجاز يده فوق صدره وقال : الحقيقة يا مولانا الناس ديل كلامهم نصو صاح؟
استفسر القاضي : كيف؟
انا فعلا قلت للبت داير اقابلك علي انفراد. علّي غرضي كان شريف !.
ضحك شيخ النور وقال : شرف شنو جوة المريق!
تنحنح القاضي ونقل جسمه الي الامام قليلا ليستمع جيدا للاعتراف الفضيحة: وقال لسعد ابو الجاز وليه عملت كدة.
قال سعد ابو الجاز : الحقيقة انا كنت عاير اتفاهم معاها في امور داخلية جوهرية !.
ضحك شيخ النور وقال : تضخم وجوهرية، يا زول ما تصبر بعد تصل الوزارة بعدين تصرّح!.
ضرب شيخ الطيب المنضدة. وسأل : تتفاهم معاها في شنو؟ وايه حكاية جوهرية دي؟
قال سعد ابو الجاز: انت ما قاعد تسمع رادي يا مولانا جوهرية معناها مهمة جدا..
وقال القاضي : وايه القضايا المهمة الداير تناقشها بالليل جوة المريق؟
وقال سعد ابو الجاز: والله زي ما تقول يا مولانا كدة الموضوع خاص،كان محتاج لمكان خاص!
وقال شيخ النور: أها..
وقال شيخ الطيب: لا بأس.. ممكن نعرف الامر الخاص دة لأن في اتهام لازم نفصل فيه..
نظر سعد ابو الجاز الي الناس التي تجمعت لسماع الاخبار وقال بعد تردد : يا مولانا البيوت اسرار، وأنا زول بقيت عضو في حزب الحكومة وبدفع اشتراك شهري، ومرشح لمنصب كبير. .
أصر القاضي: يا توضح الموضوع يا أحكم عليك بالشروع في الزنا!
وقال سعد ابو الجاز: ودي تهمة جديدة ولا شنو، انا يا مولانا ما عملت شئ وين شهودك الاربعة العدول؟ البت اهدي قدامكم ودوها الدكتور يكشف عليها.
قال القاضي: الشروع في الزنا معناه انك ما زنيت لكن كنت ناوي تزني .. فهمت!
ضحك سعد ابو الجاز وقال : طيب ما اي زول اذا كدة مجرم يا مولانا، هسع انت ذاتك قبل فترة الناس قالوا انت بت ناس شيخ علي كانت عاجباك وطلبتها للعرس الا ابوا يدوها ليك عشان عندك تلاتة نسوان، يبقي تصرفك دة برضو شروع في الزنا يا مولانا!
قال مولانا وقد بدأ الغضب يغطي علي هدوء صوته: كيف؟
انت كنت داير تعرسها يا مولانا وقالوا مخصوص اتوسطت وعينتها كاتبة في المجلس لغرض في نفس يعقوب، ثم صمت سعد أبو الجاز قليلا كأنه يتذكر شيئا ما..
خبط شيخ الطيب المنضدة: واصل كلامك.
بما انك يا مولانا كنت معجب بيها وداير تعرسها لازم حتكون فكرت فيها ونويت تزني معاها.
قاطعه القاضي: ازني معاها شنو يا رجل انا كنت عايز أعرسها علي سنة الله.
وقال أبو الجاز: ما خلاص.. النتيجة واحدة..
خبط القاضي المنضدة خبطة اخيرة: حكمت المحكمة شهر سجن علي المتهم سعد أبو الجاز لاهانته المحكمة الموقرة وأربعون سوطا حد الخمر!
رفعت الجلسة!
للحصول على نسخ بي دي اف من بعض اصداراتي رجاء زيارة صفحتي:
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة