بعد لحظات من هجوم (كشة) المحلية على أحد أزقة السوق المركزي ، نظرت إليها من بعيد وهي دون النسوة النائحات الباكيات من ستات الشاي وبائعات الطعام البلدي تبتسم دون إكتراث وتردد (الحمد لله أنا ما عندي مشكلة .. المشكلة في المسكينات ديل) ، إندهشت مستفسراً رفيقي عن السر الذي يدفعها للإعتقاد أنها أقل ضرراً من الآخرين بالرغم أن كل ما جرى عليهن قد جرى عليها ، فلبى صديقي نداء الإستطلاع في دواخلي وناداها وسألها عن قصتها ، زبيدة بت حاج آدم جاءت من النهود قبل 20 عاماً بصحبة زوجها إلى الخرطوم والذي كان يعمل في مجال حفر الآبار وأسكنها سكناً عشوائياً في إحدى ضواحي الخرطوم ثم إختفى فجأة إختفاءاً غامضاً ومُريباً ، ثم بإختصار وجدت نفسها في مواجهة مع الحياة وفي جعبتها خمس من الأطفال أكبرهم في عامه السابع ، رغم أمِّيتها وعدم إدراكها لأهمية التعليم في حياة الفرد بمعناه الحقيقي ، آثرت أن تناضل من أجل تربيتهم وتعليمهم من باب عدم كسر خاطرهم وحمايتهم من الإحساس بالدونية بين أقرانهم إذا ما قطعت تعليمهم ، تحزمت زبيدة وولجت إلى السوق تعمل في أشغال شتى فتارةً كانت عاملة نظافة في إحدى المدارس الخاصة ثم جربت بيع الطواقي والأدوات المنزلية البسيطة ثم ولجت إلى بيع الشاي ثم أخيراً إلى بيع الطعام ، قالت أن قضيتها الأساسية ومعاناتها الكبرى ليست مع الحياة وصعوبة الحصول فيها على متطلبات العيش الكريم ، بقدر ما كانت مشكلتها مع (كشات) المحلية التي على ما يبدو مثَّلت بالنسبة إليها (بُعبعاً) وكابوساً يصارعها ويعوق محاولاتها في البقاء ، غير أنها واصلت المشوار بجلدٍ وصبر وعزيمة و(هزمت) كشات المحلية حين تخرَّج أول أبناءها من إحدى كليات علوم الطيران الخاصة ، وما زال البقية يرتقون سلمهم التعليمي بفضل عزيمتها وقوة إرادتها ، وهي للآن تناضل بما أن الإبن الأكبر رغم تخرجه ظل عاطلاً عن العمل فيما عدا إمتهانه غسيل العربات بأحد المواقف القريبة من موقع وجودها بالسوق ، زبيدة بت حاج آدم تعتقد أنها أقل أولئك النسوة ضرراً من (كشة) اليوم التي حضرتها بنفسي وتقول (الحمد لله أنا أولادي كِبروا وواحد إتخرج باقي النسوان ديل لسه عندهم شفع دايرين يتربوا) .. من هذا المنبر أهدي هذا المقطع الأخير من (تصريح) زبيدة بِت حاج آدم إلى ولاة الأمر في هذه البلاد التي أصبحت فيها العدالة الإجتماعية نوعاً من (الحلم الإستجدائي) في إذهان من أثروا حراماً بإستغلال النفوذ والسلطة والتعدي على المال العام بلا رقيبٍ ولا حسيب ، فإغتصبوا حق زبيدة وأمثالها بتسببهم في إفقار دولتنا الغنية بالموارد والتي كانت ستكفي الفقراء والمتعففين على ألاقل رخاءاً في الأسعار ودعماً للتعليم والصحة والدواء ، الفقراء يا سادتي لم يصنعوا فقرهم بأيديهم بل تم نهبهم وتشريدهم وتعريضهم للمهالك حين لم تضرب الجهات المعنية بيدٍ من حديد آلة الفساد العام وكل من تسوِّل له نفسه أن يسرق قوت الشعب وآماله وطموحاته المشروعة .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة