يوم ان خرج المستعمر الانجليزي من السودان منتصف الخمسينات ترك العاصمة الخرطوم ترفل في حلل من الابهة والاناقة والنظام في سلوك ومظهر البشر والشوارع والمتنزهات العامة ومرافق الخدمات والاسواق.. تغيرت الانظمة والحكومات بعد ذلك وظل الحال علي ماهو عليه في عناوينه الرئيسية علي الرغم من التدهور النسبي للامور والاوضاع. مثلت بداية الحكم الاخواني اواخر يونيو 1989 وبداية حكومة الانقاذ انعطافة كبيرة وخروج خطير علي النص في نمط واسلوب العيش وادارة البلاد في السودان.. وبينما اتجه الاباء الروحيين للعملية وموظفي التنظيم المدنيين والعسكريين الي غرف عملياتهم وهم منتشين بالنصر الغير متوقع بعد ان الت اليهم اوضاع البلاد وهم يحملون معهم معاول الهدم واعادة صياغة السودان من جديد بما يتفق مع اجندة التنظيم تركوا "لضابط" هو اقرب للمشجع التنظيمي منه الي الكادر العقائدي الملتزم العالم ببوطن الامور مهمة تلوين الشوارع والطرقات العامة وتدشين "الصواني" عند مفترقات الطرق وظل هذا الهمام لفترة من الزمن شبه متفرغ لمهمته بهمة عالية ونشاط منقطع النظير وذلك مبلغ علمه وفهمه للامور .. ولكن الجنرال الهمام لم ينسي التوجه الي دار الاذاعة من حين لاخر لبث الانذرات للقوي الجماهيرية التي كانت تحاول مقاومة الانقلاب بعد ان تكشفت هويته " ومن اراد منكم ان تثكله امه" فليخرج اليوم او يفعل كذا وكذا وتهديد ووعيد من هذا القبيل. لا ادري لماذا تذكرت " امبراطور النهضة الانقاذية " المبكرة الجنرال السيد " رامبو عبد الفتاح" وانا اقراء في مقال في ذات الصدد عن شوارع الخرطوم بعد مضي كل تلك السنين علي العملية لكاتبة اعلامية في احد اليومية الصادرة في الخرطوم. في عمودها اليومي في ذات الصحيفة قالت الكاتبة سهير عبد الرحيم في ردها وتعليقها علي خبر في صحيفة اخري منسوب لاحد النواب في تشريعي الخرطوم قوله .. ان الصور المرفقة مع بعض الاعلانات في شوارع الخرطوم " تشمئز" منها النفس لاحتوائها علي صور نساء عاريات. ومضت كاتبة المقال في ربط تعليق السيد النائب بمجريات الامور بعد ان اتهمته بالانصرافية ومضت تنعي الحال الذي وصل اليه الانسان في السودان اليوم وهي تتحدث من موقع شاهد العيان عن الحفر والذباب ومقالب الزبالة ومهددات البيئة والانسان في خرطوم اليوم الي جانب مظاهر الفقر ومناظر الطفولة المعذبة والمنكسرة وهي تبحث وسط النفايات والمذابل وتعرض حياتها الي خطر الامراض والاوبئة وهي تستجدي بضع دراهم وتعرض خدماتها في تلميع وتنظيف العربات عند اشارات المرور ومضت الكاتبة الي اخر المقال الذي يمثل وكما اسلفت شهادة شهاد عيان ومعايش لمجريات الامور وسير الحياة اليومية في سودان اليوم. ولم تكن تلك الشهادة الوحيد علي مجريات الامور في سودان اليوم الحافل بالطرائف والمفارقات والمهددات وتناولت بعض الوسائط الاعلامية خبر افتتاح السيد عمر البشير لاحد المرافق الصحية بضاحية امبدة في عاصمة البلاد الوطنية ومدينة امدرمان ودعوته للسادة الالمان لتلقي العلاج في السودان الامر الذي تحول الي مادة للسخرية والتهكم علي مدي ايام كثيرة من خلال المقارنة المريرة بين حديث الرئيس وماعلية الحال و العملية الصحية في البلاد والاوضاع التراجيدية التي يعاني منها المرضي والمرافق التي يتلقون العلاج فيها. قبل ان يجف حبر الموضوع اعلاه تناولت بعض اجهزة الاعلام السودانية مشاهد مصورة لمرفق صحي في نفس المنطقة التي وجه منها الرئيس البشير النداء للالمان لتلقي العلاج في السودان بعد ان تحول المبني الي سوق لبيع البضائع المختلفة من ملبوسات واواني منزلية ولم يجد الناس كالعادة امام هذا التطور الكوميدي المحزن والمثير غير الاستنجاد بالماضي وما كانت عليه احوال المستشفيات والمرافق والمراكز الطبية في السودان القديم في محاولة لتعزية النفس وتناسي ما الت اليه الاوضاع. وعلي ذكر البيع والشراء داخل المستشفيات المعطوبة والتي تحولت الي خرائب واطلال فقد جرت العادة قديما ان تقوم بعض الاسواق الانيقة والمؤقتة خارج اسوار المستشفيات الكبري في العاصمة وبقية مدن السودان في اليوم المخصص لزيارة المرضي والذي هو في حد ذاته اسلوب رائع في المواساة في مظهره الاحتفالي حيث يتدفق الناس علي المستشفيات وهم يحملون الطيبات من الفواكه والطعام وهم يفترشون حدائق المستشفيات ويحيطون بالمرضي في مشهد فريد حتي خلد ذلك اليوم في الفن والغناء السوداني ورائعة الفنان السوداني المبدع والراحل المقيم ابراهيم الكاشف في اغنية " يوم الزيارة" التي تمجد تلك الاحتفالية الاجتماعية. رحم الله تلك الايام والسودان القديم. sudandailypress.net
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة