ظنّ بعض الإخوة أن مقالي الأخير حول التعديلات الدستورية يساند التعديل الذي أُدخل على المادة (٣٨) من دستور 2005 حول (حرية الاعتقاد والعبادة والمذهب) والتي تنص على الآتي: (لكل إنسان الحرية في اختيار رؤى يتخذها عقيدة دينية أو رؤية مذهبية وله أن يمارس أيما شعائر دينية أو احتفالات تذكر بها ويتخذ مواقع لعبادته ولا يُكره أحد على دين عيني أو مذهب معين، ولا يحظر عليه الحوار أو الجدال فيما هو حق حسب إيمانه ورأيه)، فقد أحدث هذا التعديل خروجاً على إحدى أهم مواد دستور 2005 وأعني بها المادة (5/١) التي تنص على الابقاء على الشريعة الإسلامية والإجماع كمصدرين للتشريع في شمال السودان الذي هو السودان الحالي، بعد أن ذهب منه الجنوب جراء الانفصال. في الحقيقة إنني لم أكتب في مقالي السابق عن المادة (38) المعدَّلة لكنني تناولتُ قضية الردة، وذكرتُ أن شيخ الأزهر الإمام الأكبر محمد أبوزهرة قد أبدى فيها رأياً فقهياً معتبراً وهو عالم نحرير ومن الثقات المعتَبرين، وذكَّرت بالمقولة الذهبية للإمام الثوري (إنما الفقه الرخصة من ثقة أما التشدُّد فيحسنه كل أحد)، وأظن أنه لا حرَج علينا وعلى عقيدتنا إن أخذنا برأي الشيخ أبي زهرة الذي ظل إماماً للأزهر حتى بعد جهره بذلك الرأي الذي أيَّده فيه عدد من كبار الفقهاء المحدثين، سيما وأن أهل العلم لا يرون حرجاً في الأخذ بالرخصة المستنِدة على (الرد إلى الله ورسوله)، فقد قال العلامة ابن القيم إن (أهل الإيمان لا يخرجهم تنازعهم عن مسمى الإيمان إذا ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله). هل يعني الأخذ برأي الشيخ أبي زهرة في قضية الردة مختلفاً شيئاً ما عن التعديل المقتَرح في المادة (38)؟ أُجيب بالقول: (ربما).. إن أكثر ما يشدُّني إلى رأي الشيخ أبي زهرة حرصي على عدم الدفع إلى (تنفيق) المجتمع باعتبار أن النفاق من أسوأ الشرور التي تضرب المجتمع المسلم، ذلك (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) وهو أسوأ من الكفر البواح. وقد شنَّ القرآنُ الكريم حملة شعواء على النفاق والمنافقين الذين كان لهم دور وتأثير سيئ في مسيرة الدعوة الإسلامية في عهد النبي الخاتم صلَّى الله عليه وسلَّم. حظر الردة ومعاقبة المرتد رغم النص القرآني الحاسم (لا إكراه في الدين)، بل رغم الخطاب الواضح للرسول الكريم: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، يؤدي إلى كتمان المرتد معتقده في صدره تجنُّباً للعقوبة وهو النفاق بعينه. أود أن أضيف أنه حتى إذا أبيحت الردة وفقاً لرأي الشيخ أبي زهرة فإنه لا ينبغي بأي حال أن يُسمح للمرتد بأن يدعو الآخرين إلى دينه. ذلك ينقلنا إلى تعديل المادة (38) الذي يختلف نوعاً ما عن قضية الردة سيما وأن أخطر ما فيه ليس إباحته للردة إنما ما يمكن أن يُفهم من العبارة الواردة في نهاية التعديل: (ولا يحظر عليه الحوار والجدال فيما هو حق حسب إيمانه ورأيه)، فهذه قد يُفهم منها أن يُتاح، على سبيل المثال لا الحصر، لاتباع المرتد الهالك محمود محمد طه الدعوة إلى دينه الذي ينصبه رسولاً لرسالة ثانية منبثقة من الإسلام الذي جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. على أن ما يدفع به من يدعون إلى إعمال التعديل المذكور على المادة (38) أن حظر الدعوة إلى الأفكار والعقائد الأخرى في بلادنا يُتخذ ذريعة لأهل الغرب مثلاً لحظر الدعوة إلى الإسلام في بلادهم إعمالاً لمبدأ المعاملة بالمثل، سيما وأن الإسلام ينتشر الآن في أمريكا وأوروبا والعالم أجمع انتشار النار في الهشيم. على أن ما يُمكن أن يكون حُجَّة لحظر الدعوة إلى العقائد الباطلة أن أمريكا نفسها تحظر بل تشن الحرب وتحرّك الأساطيل والطائرات بعيداً عن شواطئها لضرب بعض الحركات والتنظيمات الإسلامية التي تعتبرها مهدداً لأمن أمريكا وهو ما يمكن أن يُتخذ حُجة قوية لمنع الدعوة إلى العقائد الفاسدة التي تُقلّل وتُضعِف من التماسك الاجتماعي والسياسي في البلاد. كذلك فإنه إذا كانت أمريكا تحظر المخدرات مثلاً وإذا كنا نحرِّم الخمر والميسر والبغاء مثلاً فإن من حقنا أن نعتبر تلك العقائد الفاسدة أكثر خطراً وأشد فتكاً وتأثيراً سالباً على أمنِنا القومي من تلك الموبقات.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة