أثارت الإبنة الكريمة الفضلى الأستاذة عبير المجمر سويكت مسألة زواج النصراني بالمسلمة، طالبة من الناس مناقشة هذه المسألة المهمة على ضُوء الظروف الحياتية المستجدة. وبعد أن أشارت الأستاذة إلى تأثرها بمرجعيتها الإسلامية القويمة التي تربت عليها منذ الصغر وأكدت على تمام تمسكها والتزامها بها، عادت وأفصحت عن رأي متحفظ حول المسألة بالذات. ويلاحظ أن الأستاذة قد ابتغت أن تصل برأيها الذي أفصحت عنه إلى حكم مخالف لما تقول به كتب الفقه في المذاهب الإسلامية السنية الأربعة بصورة إجماعية. وبالطبع فلا يمكن رفض إجماع علماء الشرع على مرِّ العصور تعويلا على قوة العقل الإنساني المجرد أو على دعوى الحرية الشخصية وحرية الفكر. فهذه مسألة دينية شرعية تحكمها مصادر الوحي السماوي لا مصادر العقل البشري. فالعقول البشرية تختلف في تقديرها للأشياء؛ وأكثر القضايا بما فيها كبريات القضايا الوجودية، وبما فيها قضية الإيمان الديني نفسه، لا يوجد حولها اتفاق عقلي. فكم رأينا من أصحاب العقول الجبارة الخطيرة من هم ملحدون أو لا أدريون من مثل برتراند رسل. ثم إنه لا يوجد عقل بشري واحد مكتمل من كل النواحي بحيث يمكن أن نكل إليه سلطات الاجتهاد مع وجود النص الشرعي القاطع. وحتى لو وجد هذا العقل البشري المثالي فإن هذا لا يسوغ لنا أن نخرج على أحكام الشرع. وأما الحكم الشرعي الذي يمنع زواج غير المسلم بالمسلمة فقد جاء في قول الله تعالى:(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) المائدة: 5. ولكي نفهم هذه الآية الكريمة فهما صحيحا يتوجب علينا أن ننظر إلى بعض قواعد أصول الفقه. حيث تقرر إحدى هذه القواعد أن الأصل في الأشياء الإباحة. فكل شيء مباح من حيث الأصل حتى يرد نص شرعي بتحريمه. ولكن هذا لا ينطبق على ناحية الفروج! لأن الأصل فيها هو الحظر لا الإباحة. ومعنى ذلك أن مباشرة الفروج لا تحل إلا بعقد الزواج الشرعي. وبتطبيق هذه القاعدة على الآية الشريفة يتضح أن الآية لم تحلل زواج غير المسلم من المسلمة. حيث لم تقل الآية إن النساء المسلمات يحللن لأهل الكتب يهودا كانوا أو تصارى. وبهذا يبقى زواج المسلمة بغير المسلم رهن الحظر. فهذا هو الحكم الشرعي النهائي في الموضوع. وكل خلاف عقلي مع النص القاطع لا يؤبه به. ثم إنه لحريٌّ بنا أن نتأمل ما جاء في ختام هذه الآية الكريمة لنتبين أن ما يقضي في هذا الموضوع هو الشرع لا العقل المحض. ولنعلم أن هذا الموضوع يعتبر من مسائل الإيمان التي يؤدي جحدها إلى الكفر المحض. فإن الله تعالى يقول في التعقيب الختامي على الأمر بجملته:(وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ). على أن العقل الذي تعتدُّ به الأستاذة عبير - وهذا مما يحسب لها - هو مما يدفع أيضا باتجاه ما قرره القرآن الكريم بهذا الصدد. وبهذه المناسبة أهدي إلى الأستاذة الكريمة هذا النص الذهبي الذي قرأته قبل نحو نصف قرن للأستاذ محمد أسد. والسيد محمد أسد هو يهودي أوروبي، كان يدعى ليبولد فايس، وقد اهتدى أثناء تجواله في العالم الإسلامي إلى دين الإسلام. وفي ظني أنه لا يوجد مسلم أصلي أو مهتدٍ أكثر عقلانية أو تقدمية منه. وقد قال رضي الله عنه وأرضاه، وهو يشرح ما بعض ما جرى خلال رحلته الثانية إلى مصر: كنت في هذه المرة مسافرا في الدرجة الأولى، ولم يكن في الديوان في العربة سوى مسافريْن غيري؛ تاجر يوناني من الإسكندرية سرعان ما جعلني بالسهولة التي يتميز بها الشرقيون جميعا أخوض معه في حديث نشيط، وكان يرسل النكات الطريفة عن كل ما تقع عليه أعيننا، وعمدة مصري من القفطان الحريري الثمين وسلسلة الساعة الذهبية الغليظة البارزة من حزامه كان رجلا بادي الغنى إلا أنه كان مقتنعا ببقائه متجردا من كل علم، والواقع أنه حالما اشترك معنا في الحديث اعترف بأنه لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة، ومع ذلك فقد كان يظهر ذوقا سليما حادا. كنا نتحدث كما كنت أذكر عن بعض المبادئ الاجتماعية في الإسلام؛ تلك المبادئ التي كانت تشغل في ذلك الوقت حيزا كبيرا من تفكيري، ولم يوافقني رفيقي اليوناني المسافر موافقة كلية على إعجابي بالعدالة الاجتماعية في الشريعة الإسلامية. قال: إن الشريعة الإسلامية ليست عادلة بالمقدار الذي تعتقد يا صديقي العزيز- ثم تحول من الفرنسية التي كنت نتحدث بها إلى العربية كي يفهم رفيقنا المصري الحديث - واستدار إليه قائلا: إنكم تقولون إن دينكم عادل جدا، فهل تستطيع مثلا أن تقول لنا لماذا يبيح الإسلام للمسلمين التزوج من الفتيات المسيحيات أو اليهوديات، ولا يبيح لبناتكم وأخواتكم أن يتزوجن من المسيحيين أو اليهود؟! هل تسمي هذا عدلا؟! إيه؟! طبعا أسميه عدلا.. أجاب العمدة الوقور دون أن يتردد لحظة واحدة، وسأخبرك لماذا جاءت شريعتنا بهذا؛ نحن المسلمون لا نعتقد أن المسيح عليه السلام هو ابن الله، ولكن نعتبره فعلا - كما نعتبر موسى وإبرهيم وسائر الأنبياء - رسل صدق من عند الله، وأنهم جميعا أرسلوا إلى الناس بالطريقة نفسها التي أرسل بها خَاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وهكذا فإذا تزوجت فتاة مسيحية أو يهودية فإن بإمكانها أن تطمئن إلى أن أحدا من الأشخاص المقدسين في نظرها لا يمكن أن يؤتى على ذكره بين أفراد عائلتها الجديدة إلا بكل تبجيل واحترام. في حين أنه من الناحية الأخرى إذا تزوجت مسلمة من غير مسلم فإن من تعتبره رسول الله خليق بأن يذم ويساء إليه ولربما من قبل أولادها أنفسهم؛ أفلا يتبع الأولاد عادة دين أبيهم؟! وهل تعتقد أن من العدل تعريضها لمثل هذا الإيلام والإذلال؟! ولم يجد اليوناني ما يجيب به عن هذا إلا هزة من كتفه، أما أنا فقد بدا لي العمدة البسيط الأمي بذلك الذوق السليم، الذي يتميز به أبناء جنسه إلى حد بعيد، قد أصاب الكبد من مسألة على جانب عظيم من الأهمية. ومرة أخر كما حدث لي مع ذلك (الحاجي) الهرم في القدس شعرت أن بابا جديدا إلى الإسلام يفتح لي. أما ذلك (الحاجي) المقدسي فقد كانت له حكمة أخرى من حكم الناس الأميين البسطاء العظام. وقد كان من شأن تلك الحكمة أن فتحت بابا آخر لمحمد أسد وهو يسعى في طريقه - من دون أن يشعر - إلى الإسلام. وهي قصة نرجو أن تتاح لنا الفرصة لاستعراضها في مقال لاحق بإذن الله.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة