قلَّ أن وقف قارئ على بحث ساده التخبط والزيف مثل هذا البحث الذي اجترحه النور حمد وزعم أنه أطروحة علمية تعالج معوقات التنمية والتحديث في السودان. والواقع أن ما كتبه النور حمد في هذه الأطروحة المدعاة لا يعدو أن يكون مجموعة خواطر متداعية مثل الموضوعات الإنشائية، أو (الاندياحات) الوجدانية التي تترى فيها القضايا وتنساق على حسب الذوق والاشتهاء؛ فهي أشبه بالشعر منها بالفكر. فكل ما اشتهاه (الباحث!) مما يمكن أن يَسبَّ به العرب الأشراف اجتزأه من المصادر المختلفة ودسَّه في ثنايا أطروحته المزعومة، وعدَّه بينة قاطعة يدين بها العرب الرعاة ويندد بعقولهم المعادية بطبيعتها للحداثة كما ادعى! وقد سمع هذا (الباحث!) أن لعبد الرحمن بن خلدون نصا في ذم العرب فسارع إلى اقتطاع جزء منه وحشده في حنايا أطروحته وبنى عليه قبابا من رمال. وكان غريبا أن عَمَد الباحث المزعوم إلى مَثَل فرعي مما جاء في قول ابن خلدون وحفل به بينما غفل عن أصل النظرية التي جيئ بالمثل من ضمن أمثلة أخرى لإثبات صحتها! كان الإمام ابن خلدون رضي الله تعالى عنه قد كتب فصلا بعنوان:" إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب". وقد لخص هذا العنوان مضمون النظرية التي افترعها ابن خلدون بهذا الخصوص، وهي نظرية صحيحة صائبة من نظريات علم العمران الذي أسسه هذا الشيخ الإمام. وقد قال ابن خلدون في تعليل ما ارتأى:" والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم خُلقا وجبلَّة، وكان عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم، وعدم الانقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له". والمعروف أن ابن خلدون لم يقصد بكلمة العرب ما يفهم منه معنى الأمة العربية اليوم، فهي أمة ذات حضارة تاريخية علمية باذخة، كان هو واحدا من أفذاذ علمائها الأعلام. وإنما عنى بها الجماعات الانتهازية التي تتربص على الحواشي والهوامش مثل الجماعات التي سماها القرآن الشريف بالأعراب. وهي جماعات كانت تعيش على مقربة من المدينة المنورة ولا تغشاها، لأنها لا تريد أن ترتبط بعقد الأمة المسلمة، ولا تريد أن تلتزم بأحكام الشريعة، ولا بسلطة الدولة المسلمة. وقد ضرب ابن خلدون لهؤلاء الأعراب مثلا في بعض القبائل الوحشية المخربة في بلاد اليمن، والعراق، والشام، وإفريقية؛ وذكر على سبيل التحديد قبائل بني هلال وبني سُليم. ومع أن هذا القول جاء في ذيل الفصل الذي كتبه ابن خلدون بهذا المعنى، إلا أنه هو ما طاب للنور حمد أن يقتطعه، ظانا أن ينطبق على سودان اليوم، لأن كلمة السودان وردت فيه! وقد قال النور في استشهاده به:" وما قام به الأعراب البدوان، (يقصد البدو!)، من نهب وسلب وتخريب، وقطع للطرق، ما (يقصد مما!) عوق التجارة، هو ما أزال ملك النوبة. وهذا هو ما أكده ابن خلدون. يقول ابن خلدون، إن إفريقية والمغرب لما جاز إليها بنو هلال وبنو سليم، في المئة الخامسة، وبقوا فيها ثلاثمائة وخمسين من السنين، عادت بسائطها كلها خرابا، بعد أن كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمارا. ويقول ابن خلدون، إن ما يشهد على ما كان من عمران في هذه المناطق، ما بقي قائما من بقايا الآثار، ومن معالم وتماثيل، وأيضا ما بقي من شواهد على ما كان فيها من قرى ومن مدر". وهنا يُفتضح جهل النور حمد بمدلول ما استشهد به من القول افتضاحا ما له من ستر! فإن بلاد إفريقية المشار إليها في قول ابن خلدون ليست هي القارة الإفريقية المعروفة اليوم بهذا الإسم. وإنما هي بلاد تونس الحالية التي كانت الجغرافيا العربية تمنحها هذا الاسم إذَّاك! وكذلك فإن بلاد السودان التي جاء ذكرها في النص ليست هي بلاد السودان الحالية. وإنما هي أقطار السودان الغربي من مثل مالي، والنيجر، والسنغال، وتشاد، ونحوها! ولو كان النور حمد ممن يقرأون النصوص التي تعنيه وتعني (بحثه!) بشيء من العناية لما انزلق إلى فهمها على هذا النحو شديد الخطأ. فابن خلدون إنما تحدث في النص الذي اجتلبه منه هذا (الباحث!) عن الرقعة التي تضم بلاد تونس ونواحي المغرب العربي التي تضم ما يعرف حاليا بالجزائر، وما بعدها إلى أقصى المغرب العربي، ولم يتحدث عن بلاد النوبة في سودان اليوم! ومن ثم فلم يكن من مسوغ لأن يقوِّل هذا (الباحث!) إمام فلسفة التاريخ والعمران والاجتماع ما لم يقله قط عن بلاد النوبة في سودان اليوم. وبتقرير هذه الحقائق تسقط كل معالم الاستنتاج المتسرع الخاطئ الذي انتهى إليه هذا (الباحث!) وجاء فيه:" وما قام به الأعراب البدوان، من نهب وسلب وتخريب، وقطع للطرق، ما عوق التجارة، هو ما أزال ملك النوبة. وهذا هو ما أكده ابن خلدون"! فيا للجهل الفاحش بالجغرافيا وبالتاريخ معا! وياله من جهل يضاعف من فحشه أنه صادر ممن كان يمتهن مهنة التعليم في مدارس التعليم العام بالسودان. وإذا صحَّ أن مستوى التعليم في بلادنا قد هبط في الزمن الأخير فعسى أن يكون المدرسون الجهلة من أمثال النور حمد هم ممن سببوا هذا الهبوط. وإن من علائم جهل هذا المدرس العتيق، ومن دلائل غفلته، وتهافت منهجه في التعامل مع النصوص، أنه لم ينتبه في الجزء الذي اقتطعه واستشهد به إلى قرينة دالَّة فيه هي عبارة (البحر الرومي) في قول ابن خلدون:" بعد أن كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمارا". فهذه القرينة تدل على أن قائلها ما كان يقصد بحديثه سودان اليوم. لأنه لا صلة لسوداننا ولا متاخمة له ولا علاقة له بالبحر الرومي، الذي هو البحر الأبيض المتوسط! وإنما قصد القائل، كما تدل القرينة الدالة في قوله، البلاد التونسية وما جاورها من بلدان المغرب العربي، فهي الرقاع التي يحدها شمالا البحر الأبيض المتوسط! وقد انضافت إلى سوء الفهم سوأة أخرى اجترحها (الباحث!) تجاه النص الذي استخدمه، إذ سمح لنفسه أن يحرف كلم ابن خلدون في الجملة التي قال في آخرها (عمرانا) فجعلها (عمارا) وهذا تصرف غير محمود. وقد كان من الطبيعي ألا يفهم النور حمد أيضا ما جاء في خاتمة كلام ابن خلدون عن الآثار التي عصفت بها أعراب بني هلال وبني سُليم فظنها آثار النوبة في السودان. وإنما قصد ابن خلدون آثار الفينيقيين وآثار الرومان التي لا تزال بقاياها متناثرة في قرطاجة وما تاخمها من أصقاع! وعسى أن يعيد النور حمد قراءة النص الخلدوني على ضوء هذه الإيضاحات التوجيهية، وأن يعترف بخطئه في فهمها، وأن يعترف كذلك بتحريفه لكلم ابن خلدون وأن يعتذر عنه. وعليه إثر ذلك أن يحوِّل هذه الإيضاحات بالنيابة عنا إلى الرويبضة الذي دافع عنه بالباطل باسم اسماعيل حسين عبد الله حتى يفهم هو الآخر ما قاله ابن خلدون.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة