نهض تنظير العلماء الراسخين الأقدمين المتخصصين في العلوم القرآنية لنوعي التنزيل المكي والمدني على أسس موضوعية سليمة قويمة. بينما تأرجح التنظير الذي اجترحه زعيم الحزب الجمهوري على دعاوى إيديولوجية غير علمية. وقد كان مما قرره العلماء الثقاة الذين تصدوا للتنظير لهذا الموضوع أن ثمة خلافات ظرفية بين هذين النوعين من الآي القرآني الشريف. غير أن أحدا منهم لم يقل بنسخ القرآن المدني للمكي أو العكس. واستقر التنظير على هذا التقرير حتى جاء المدعو محمود محمد طه فادعى أن القرآن المدني قد نسخ القرآن المكي مرحليا. وأن القرآن المكي قد عاد فنسخ القرآن المدني نهائيا. وتبعا لهذا الترتيب المزعوم يمكن استبعاد آيات القرآن المدني من المصحف الشريف. لأنها غدت غير ضرورية لإنسان العصر الحديث بعد استنفدت أغراضها في هداية بشر قُصَّر في نظر محمود محمد طه. وفي رأي المدعو طه فإن هؤلاء الناس، وفيهم أكثر الصحابة الكرام، هم أقل ذكاء وعلما وإنسانية وفضلا من أناس القرن العشرين عموما ومنه هو شخصيا على وجه الخصوص. وبعيدا عن هذا الهراء الذي اجترحه زعيم الحزب الجمهوري، وبعيدا عن دعاواه الباطلة في التأصيل، دعونا ننظر إلى خلاصة ما أفاد به العلماء العظماء القدامى وهم ينظِّرون لهذا الموضوع. إن القرآن المكي يشتمل، في نظر هؤلاء، على الآيات التي نزل قبل الهجرة، وإن لم تنزل بمكة المكرمة. وأن القرآن المدني هو ما نزل بعد الهجرة وإن لم ينزل بالمدينة المنورة. وتعليل ذلك أن من القرآن المدني آيات كريمة نزلت بمكة المكرمة. مثل قول الله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات 13. فقد نزلت هذه الآية الكريمة بمكة المكرمة يوم الفتح الأكبر، ولكن الخطاب فيها عام للمكيين وغيرهم. ومثل هذا النوع من الآيات الكريمة لا يعدُّه العلماء قرآنا مكيا، كما لا يعدونه مدنيا، على وجه التعيين. بل يقولون فيه: ما نزل بمكة وحكمه مدني. ومن القرآن المكي ما نزل بالمدينة المنورة مثل سورة الممتحَنة، فإنها نزلت هناك بحكم المكان، ولكن الخطاب في سياقاتها توجه إلى مشركي مكة، واختص بهم. ومثل هذا يمكن أن يقال في تصنيف مطالع سورة التوبة. ومثل هذا لا يسميه العلماء مدنيا، كما لا يسمونه مكيا، على وجه التعيين بل يقولون فيه: ما نزل بالمدينة وحكمه مكي. وقد اعتمد كبارالعلماء في تبيينهم لهذه الفوارق على منهجين علميين أساسيين: أولهما المنهج السَّماعي أو النقلي، الذي يستند إلى الرواية الصحيحة الموثوقة عن الصحابة الكرام الذين عاصروا الوحي، أو عن التابعين من الجيل التالي الذي تلقى عن الصحابة ونقل عنهم. والمنهج الثاني هو المنهج القياسي الاجتهادي، الذي يستأنس بقرائن لغوية وأسلوبية قوية تتصل بخصائص القرآن المكي والمدني. فإذا ورد في السورة آية تحمل طابع القرآن المكي قالوا إنها مكية. وإن كانت تحمل خصائص القرآن المدني قالوا إنها مدنية. ومن هذه القرائن الأسلوبية أن آيات القرآن المكي غالبا ما تكون قصيرة العبارة وشديدة الجَرْس. وأما آيات القرآن المدني فغالبا ما تكون أطول عبارة وأهدأ جرْسا. وقد ترددت مسائل العقيدة وتجارب الدعوة وقصص الرسل مع أقوامهم في القرآن المكي. بينما امتاز القرآن المدني بوجود آيات التشريع فيه وبالحديث المستفيض عن الجهاد. ومن علماء الإسلام الكبار في هذا العصر نهض الشيخ التيجاني عبد القادر حامد وقدم أطروحة قيمة شملت اجتهادا ثريا عن الأصول السياسية في القرآن المكي. وقد قام في سياقها بتطوير وتأصيل الملاحظات الفكرية السابقة في الموضوع. وهي الملاحظات التي أفادت بأن القرآن المكي احتوى بجانب أحكام العقيدة على بعض أحكام التشريع وبخاصة في جانب التشريع الدستوري. وقد دلت أطروحته على أنه ليس ثمة فصال أو انفصام بين الآي المكي والمدني. بدليل أن كلا منهما استهدف تأسيس دولة إسلامية وصياغة تشريعات دستورية وقانونية. وبعيدا عن القصد الصائب من بحث البروفيسور التيجاني عبد القادر اتجه دجال السودان الأعظم محمود محمد طه إلى الإبهام والإيهام بوجود فوارق نوعية حاسمة وطروء تناقضات كاملة بين محتويات كل من القرآن المكي والمدني. وعند تطبيقه العملي لنظريته وتصيُّده للأمثلة والأدلة الدالَّة عليها وقع الدجال في مصيدة فكرته. حيث خلط بين هذين القسمين القرآنيين المتمايزين في نظره تمايزا حاسما. وراح يستدل بالقرآن المدني زاعما أنه قرآن أصول. مع أنه ادعى من قبل أنه قرآن فروع. ومثالا لذلك ففي دعوته إلى مبدأ الاشتراكية، الذي كان (مودة) شائعة حين أطلق دعوته في ستينيات القرن الماضي، ومناداته بضرورة الانتقال منه سراعا إلى تطبيق المبدأ الشيوعي المتطرف، الذي ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم عاشه في قمته العليا، ادعى محمود محمد طه أن المستند في الدعوة إلى تطبيق الشيوعية والدليل عليه مستمد من قول الله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ). ثم غفل الدجال المحتال عن أن الآية الكريمة التي استشهد بها قد وردت في سورة البقرة، وهي سورة مدنية، بل هي إحدى آخر سور القرآن نزولا. فهي خلافا لأصول دعوته ومزاعمه في التأصيل المنهجي لا تنتمي إلى القرآن المكي، أو قرآن الأصول الذي يدعو للعودة إليه، ويدعي أنه ناسخ للقرآن المدني؛ قرآن الفروع حسب تصنيفه العشوائي! وفي مقال لنا سابق كتبناه عن الجمهوريين والدواعش قلنا إن الآية الكريمة التي تحكم قضايا الجهاد وتهيمن عليها هي آية مدنية كريمة. وهي قول الله تعالى:(لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة: 256. وهذه آية آية إسماح كبرى، وليست آية إكراه أو آية سيف أو عنف كما زعم محمود محمد طه حسب وصفه لمحتويات القرآن المدني. وبهذا المثال المنتزع من صميم القرآن المدني، وغيره موجود بكثرة في الآي المدني، ينهار التقسيم الجمهوري الذي افترض أن آيات الإسماح هي من القرآن المكي وحده. وأن القرآن المدني قد خلا منها خلوا تاما!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة