صدَّق محمود محمد طه خيالاته وأوهامه وأباطيله وسوء تآويله. وظن أنه قد حان الحين لكي يسجد قلبه، وإلى الأبد، بوصيد أول منازل العبودية، كما قال. وليلحظ القارئ أن كلمة الأبد الواردة في قوله تعني عدم الموت، لأن الأبد هو الخلود الدائم! وظن أنه قد انفكَّ من أسر التسيير وصار مخيَّرا في أمره كله. وظن:" أن التسيير قد بلغ به منازل التشريف، فأسلمه إلى حرية الاختيار". لأنه:" قد أطاع الله، حتى أطاعه الله، معاوضة لفعله"! فأصبح:" حيا حياة الله، وعالما علم الله، ومريدا إرادة الله، وقادرا قدرة الله". وظن أنه قد أصبح الله! وهكذا اعتقد المسكين بدفع من وحي شياطينه أنه قد أصبح صاحب الوقت. وأنه صار القطب الذي سيحكم الدنيا أو يحكم بلاد السودان على أقل الإمكان! وظن أتباعه أنه قد بات على وشك التجلي عند مقرن النيلين الأبيض والأزرق في الخرطوم. ولكي يودع هذه الخرافة في مدارك أتباعه فقد انتحل لهم دليلا من قول الله تعالى (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ). ولطالما أشاع محمود محمد طه عن نفسه كما أشاع عنه أشياعه أنه من أرباب الأذواق ومن أهل البصائر الذين يقتنصون شوارد المعاني في أحوال المواجد والمجاذب. فما بال أذواقه ومواجده لم تهده إلى أن المعنى الذي أشار اليه النص القرآني ما ورد في مقام تشريف لطيف وانما في مساق تهديد عنيف. ولو قرأ أي قارئ هذه الآيات في سياقها بدون تفسير لاهتدى إلى أنها لا تشير إلى تبشير. فقد قال الله تعالى:(وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) القلم: 10-16.
وليت شعري كيف يظن من له أدنى بصر باللغة العربية أن الوسْم هو التجلِّي؟! وقد قال عنه المفسرون إنه الخطْم والوصْم. فقال ابن عباس، رضي الله تعالى عنه، عمن نزلت في حقه هذه الآيات:" يقاتل يوم بدر فيخطم بالسيف في القتال". وقال الطبري:" سنبين أمره بيانا واضحا حتى يعرفوه ولا يخفى عليهم، كما لا تخفى عليهم السِّمة على الخراطيم". وقال قتادة:" شيْن لا يفارقه آخر ما عليه". وقد زاد إمام الجمهوريين فأبرز دليلا آخر على دعوى التجلي أساء فيه تأويل قول الله تعالى:(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ). فقال إنه يعني التقاء النهرين الأبيض والأزرق قريبا من حدائق المقرن وملاهيها بالخرطوم! وقد عمد إلى ذلك بعد انتزع الآية من سياقها الصحيح وهو:(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) الرحمن: 19-21. وما درى أن هنالك آيات أخرى أشارت إلى المعنى نفسه وأبانته. حيث قال الله تعالى:(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا) الفرقان: 53. وقال تعالى:(أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) النمل: 61. وقال تعالى:(وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) فاطر: 12. ثم أضاف محمود زعما آخر فادعى أن اسمه الشخصي قد ورد في القرآن الشريف. وذلك في قول الله تعالى:(عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا). وقد قال إمام المفسرين الطبري في تأويل هذه الآية الشريفة:" أقم الصلاة المفروضة يا محمد في هذه الأوقات التي أمرتك بإقامتها فيها، ومن الليل فتهجد فرضا فرضته عليك، لعل ربك أن يبعثك يوم القيامة مقاما تقوم فيه محمودا تحمده، وتغبط فيه. وقال: واختلف أهل التأويل في معنى ذلك المقام المحمود، فقال أكثر أهل العلم: ذلك هو المقام الذي هو يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم".
وقد غفل صاحب الحزب الجمهوري عن أن الخطاب في الآية الكريمة موجهٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس من سمي اتفاقا باسم محمود. وغفل عن أن كلمة (محمودا) جاءت نعتا للمقام، وليس اسما علَميا، فضلا عن أن يكون اسما لأحد السُّودان! وقد جهل أتباع الحزب الجمهوري هذه الدفوع جميعا فانطلى عليهم زعم زعيمهم. وتأهبوا من ثّمَّ لشهود حالة المخاض التي يتمخض فيها الوجود الكوني بالمخلِّص قريبا من حي المقرن بالخرطوم. وأعلن الحزب حالة الطوارئ في انتظار الحدث الطارئ. وفي انتظاره أبطلوا الانشغال بكل ما يشغل عنه ويلهي من أمور الوجود الفاني. فأعرض الشباب الجمهوري عن سنة النكاح وأهملوا مهمة تكوين الأسر. وقد كان ذلك بأمر مباشر من كبيرهم الذي طبق ذلك على نفسه حين ظن أنه على وشك التجلي. ولذلك أرجأ زواج أتباعه الجمهوريين حتى فارقوا عهد الشباب. وكأني بهم، يا ويحهم، وهم يختانون أنفسهم، ويتحرقون في استعطاف وتشكٍّ، متشفعين بشيخهم، ومرددين مع عثمان حسين من قول حسين بازرعة: ما كفاية فارقنا الشباب! ولكن ما استمع إليهم شيخهم وما استجاب. وظلَّ يُصبِّرهم ويعِدُهم ويمنِّيهم ويعلِّلهم بأن عهد تجلِّيه قد اقترب وحان فما عليهم إلا أن يترقبوه ويتخففوا للقاء اليوم المهيب. وربما كان اصطبار رجال الحزب الجمهوي وانتظارهم وتأنِّيهم وتأجيلهم لأمر زواجهم من الشأن المعقول المقبول. ولكن في ناحية أخرى بلغ الأمر حدود المأساة. وذلك ما بدا في جانب نساء الحزب الجمهوري. إذ فارقن شبابهن بلا تبعُّل! وذلك في حقهن جرم ما له من مبرر إلا الوهم الخادع الذي نفثه في رُوعهن زعيم الحزب. ولا ينبغي أن يظن ظانٌّ أنا نتقوَّل على الجمهوريين ونفتري عليهم وعلى شيخهم الكذب ونحن نسوق بحقهم هذا الحديث. وتالله وبالله تعالى فما كان لنا من علم بهذه الحقائق المؤسفة قبل أن يكشف عنها الغطاء حديثا جمهوري انعتق من ربقة الاستلاب الحزبي، وهو الأستاذ أبو بكر القاضي القائل: " عزوف الجمهوريين عن الزواج فى حياة الأستاذ الشهيد لا ينكره إلا مكابر. هذا العزوف مصدره الأستاذ شخصيا. فقد كان يدعو الجمهوريين إلى التبتل. أى تخفيف الحمل فى رحلة السير إلى الله. والقراءة النقدية العقلانية تقول إن المسالة لها علاقة مباشرة بالتمويل حيث إن الحركة تعتمد فى تمويلها على مرتبات الجمهوريين والجمهوريات. والقراءة الفاحصة تقول إن إعلان التزام الفرد للفكرة الجمهورية يعنى صك استرقاق وتمليك للفكرة. باختصار كل امكانات الفرد تصبح ملكا للفكرة. والجمهورى حين يتزوج فالخوف أن يسخر امكاناته المادية ووقته لنفسه. وبالتالى سيصرف راتبه على أسرته المباشرة. ويصرف جزءا من وقته فى الذهاب للمستشفيات وعلاج الأطفال. باختصار سيعيش لنفسه وأسرته ويخرج من الاستلاب. كان يمكن بإشارة مبهمة من الأستاذ أن يتزوج كل الجمهوريين ولا تبقى جمهورية واحدة عانسا. ولكن رغم تجاوز بعض الجمهوريات لسن الثلاثين وتجاوز بعض القياديين لسن الخمسين إلا أن الأستاذ لم يعط الضُّوء الأخضر للزواج. [و] الطريف لدرجة السخف واللاعقلانية أن الأستاذ محمود كان (يبنِّج) الجمهوريات اللاتى تجاوزن الثلاثين بأنه بعد الوكت، الوقت، أى بعد انتصار الفكرة وظهور المسيح، سوف يبعث الناس جميعا فى عمر أهل الجنة، فى الثالثة والثلاثين. يعنى لا تخافوا من سن اليأس وانقطاع الطمس وخطر عدم الانجاب". وربما اختلفنا مع الأستاذ القاضي في تفسيره الجزئي لموضوع تأخير زواج الجمهوريين. إذ رأيناه ينحو إلى تفسيره تفسيرا ماديا خالصا. وربما آثرنا أن نتجه في تفسيره إلى ناحية ميتافزيقية لا فيزيقية. فنقول إن إحجام شباب الجمهوريين وكهولهم عن سنة الزواج كان نتاجا طبيعيا لخرافة التجلِّي التي انطلت عليهم. حيث اقتضت تلك الخرافة أن يشمر أعضاء الحزب في التبشير بها، والإعداد لها، وعدم الإنشغال عنها بمعافسة الأزواج ومعالجة الأنجال. فإلى هذا الحد الخرافي المذهل كان محمود محمد طه مؤمنا بوصوله إلى مرتبة التجلِّي المزعوم. بعد أن نال حريته الكاملة وأحرز مقام التخيير التام. واستيقن أتباعه أنه فرد خالد لا يموت. ألم ينشد شاعر الحزب، وأحد كبار دجاجلته، المدعو عوض الكريم موسى، مخاطبا زعيمه قائلا: يا من خُلقتَ بذاته وأقَمتَ كلَّ صفاته ترقَى ولا تلقَى المنون؟! أولم ينطق بهذا الوهم نفسه، وهم الترقي المطلق، والخلود الأبدي، ومجانبة قدر المنون، قطب جمهوري آخر هو المدعو بشير عيسى بكار الذي حضر مشهد قتل زعيمه بسجن كوبر، بيد أنه لم يصدق ما رأت باصرتاه، فنهض مذعورا وهو يقول:(وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)؟! أولم يعترف ثرثار من بقايا ثرثاري الحزب الجمهوري، في لقاء له مع تلفاز النيل الأزرق، أنه ما كان يصدق أن شيخه سيقتل في ذلك اليوم. وأن حادثا قدريا خارقا سيحول بينه وبين ملاقاة المنون؟! وإزاء ذلك فما أحقُّ وما أصدق وما أمرُّ سخرية الشهيد محمد طه محمد أحمد إذ قال في ملاحاة له مع بعض أقطاب الحزب جمهوري قبل مقتل شيخهم بساعات إن أفضل اختبار لمصداقية من يدعي أنه إله أن تعلقه بحبل فإن سقط ميتا فقد برهن على أنه ليس بإله!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
محمد وقيع الله
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست