كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
|
Re: هل كان محمود محمد طه الشخص الوحيد المُخيّ� (Re: محمد وقيع الله)
|
سلام للجميع أحب أن أضع للقراء الكرام هذه الفقرات من كتاب "الرسالة الثانية من الإسلام" لعلها تعين على فهم مسألة التسيير التي يقول بها الأستاذ محمود:
لقد جاء الإنسان إلى هذه الحياة ولم يكن له في أمر مجيئه تدبير ، ولا اختيار ، وهو يغادر هذه الحياة ، يوم يغادرها ، وليس له في ذلك تدبير ، ولا اختيار .. والله تعالى يحدثنا في ذلك فيقول ، جل من قائل : (( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة ، فخلقنا المضغة عظاما ، فكسونا العظام لحما ، ثم أنشأناه خلقا آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين * ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون )) وهذه الصورة القرآنية المتكاملة تعطينا صورة لموضعنا من الكون ، إذ نحن مسيرون فيه كالعناصر الصماء تماما ، ولن يكون لنا فضل عليها إلا إذا استيقنت نفوسنا أمر هذا التسيير ، ثم أذعنا له ، عن رضا وعن استسلام ، وعن علم ولقد خلقنا الله مستعدين لتحصيل هذا العلم ، ولقد أشار إلى هذا الاستعداد بقوله تعالى (( ثم أنشأناه خلقا آخر )) من الآيات السابقة . وفي موضع آخر جاء البيان الواضح ، حيث قال : (( وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين )) فهذا الخلق الآخر إنما جاء من نفخ الروح الإلهي فيه .
الإرادة
والروح الإلهي المنفوخ في البشر هو الإرادة .. والإرادة صفة متوسطة بين صفتين .. من أعلاها العلم ومن أسفلها القدرة .. وبالعلم والإرادة والقدرة أبرز الله العوالم إلى حيز الوجود ، وكذلك البشر إنما يعملون أعمالهم بالعلم والإرادة والقدرة ، فوقع الشبه بين الخالق والمخلوق ، والى ذلك الإشارة بقول المعصوم : (( إن الله خلق آدم على صورته )) . والإرادة لله بالأصالة ، وللإنسان بالإعارة ، وهي هي الأمانة التي أشار إليها تعالى في قوله (( إنا عرضنا الأمانة على السموات ، والأرض ، والجبال ، فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها ، وحملهـا الإنسان ، إنه كان ظلوما جهولا )) .. (( ظلوما )) بادعائه لنفسه ما لغيره ، و (( جهولا )) بقدر نفسه ، حين ظن أنه صاحب إرادة ، والذي ورطه في هذا الظلم ، وهذا الجهل ، خفاء الأمر ، ودقة مأتاه ، ذلك بأن الله ، جلت حكمته ، سير الغازات ، والسوائل ، والجمادات ، تسييرا قاهرا ومباشرا ، (( قل أانكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ، وتجعلون له أندادا ، ذلك رب العالمين ، وجعل فيها رواسي من فوقها ، وبارك فيها ، وقـدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ، ثم استوى إلى السماء ، وهي دخان ، فقال لها ، وللأرض ، إئتيا طـوعا أو كرها ، قالتا أتينا طائعين ، فقضاهن سبع سموات في يومين ، وأوحى في كل سماء أمرها ، وزينا السماء الدنيا بمصابيح ، وحفظا ، ذلك تقدير العزيز العليم)). وهذه هي بيئة الحياة ، فلما تهيأ المكان في الأرض خلق فيها الحياة وأودع فيها (( إرادة الحياة )) وهي قوة تعمل ، بدوافع حب البقاء ، للاحتفاظ بالحياة .. وقانونها السعي وراء اللذة ، والفرار من الألم ، وأصبح تسيير الله للمخلوقات في هذا المستوى وهو مستوى النبات والحيوان ، شبه مباشر ، ومن وراء حجاب (( إرادة الحياة )) وهي إنما سميت بإرادة الحياة لأنها تتمتع بما يسمى الحركة التلقائية ، وذلك لأن دوافع حركتها ، وقوى حركتها ، فيما يظهر ، مودعة فيها . وهي حركة يستخدمها الحي في تحصيل قـوته ، وفي الاحتفاظ بحياته ، والاحتفاظ بنوعه . ثم لما ارتقى الله تعالى بالحياة إلى مرتبة الإنسان ، زاد على (( إرادة الحياة )) عنصرا جديدا هو (( إرادة الحرية )) ، وهي إنما تختلف عن إرادة الحياة اختلاف مقدار ، لا اختلاف نوع . ثم سير الله تعالى البشر من وراء إرادة الحياة ، ثم من وراء إرادة الحرية ، وأصبح بذلك تسييره إيانا غير مباشر ، وتدخله في أمرنا هو من اللطف والدقة ، بحيث تورطنا في الوهم الأكبر .. فاعتقدنا أننا نملك إرادة حرة مستقلة بالترك أو بالعمل .. واليكم آيات هن آية في الدلالة على لطف تدخل إرادة الله في توجيه إرادتنا (( إذ أنتم بالعدوة الدنيا ، وهم بالعدوة القصوى ، والركب أسفل منكم ، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ، ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حيى عن بينة ، وإن الله لسميع عليم * إذ يريكهم الله في منامك قليلا ، ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ، ولتنازعتم في الأمر ، ولكن الله سلم ، إنه عليم بذات الصدور * وإذ يريكموهم ، إذا التقيتم ، في أعينكم قليلا ، ويقللكم في أعينهم ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، والى الله ترجع الأمور )) .. فانظروا إلى هذا اللطف اللطيف ، مـن جانب الإرادة الإلهية القديمة ، إذ تتدخل في تسيير الإرادة البشرية المحدثة !! فالنبي يرى أعداءه في منامه قليلين فيصمم على مقاتلتهم ، ولو رآهم غير ذلك ما قاتلهم ، ثم عند اللقاء ، يرى المؤمنون المشركين قليلين فيصمموا على قتالهم . ويرى المشركون المؤمنين قليلين فيصمموا بدورهم على قتالهم . والله هو الذي يري النبي أعداءه في منامه قليلين ، والله هو الذي يري ، كل فريق من الفريقين أعداءه قليلين ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا . كل ذلك من غير أن تنزعج (( إرادة الحرية )) ومن غير أن تشعر بتدخل خارجي في أمر من أمورها ، يملي عليها ، أو يسلبها حريتها. خلق الله الإنسان ضعيف البنية ، وبغير مخالب ولا أنياب ، ليكون اعتماده على الحيلة أكثر من اعتماده على القوى الجسدية . وجعل طفولته طويلة ليكون اعتماده على الآخرين أكثر من استقلاله بأمر نفسه . وضعف بنيته ، وطول طفولته ألجآه ليعيش في جماعات ، ولقد تحدثنا آنفا عن نشأة الجماعة ، وكيف أنها أقامت العرف الذي يقيد نزوات الأفراد ، ولقد كان القتل الذريع جزاء وفاقا لكل فرد يتورط في مخالفة العرف الذي ارتضته الجماعة ، وقد يكون غضب الآلهة في انتظار هذا الفرد بعد موته ، ليذيقه من ألوان العذاب فوق ما أذاقته الجماعة ، ولقد كان الخوف من غضب الجماعة ، ومن غضب الآلهة يؤرق الفرد ، وهو لا يزال يعمل عمله في حمل الأفراد على ترك مخالفات القوانين . وبنشأة المجتمع البشري البدائي دخل صراع في البنية البشرية بين قوتين .. بين الحيوان القديم الذي يعمل (( بإرادة الحياة )) ، وقانونها السعي في تحصيل اللذة بكل سبيل ، وبين الإنسان الحديث الذي يعمل (( بإرادة الحرية )) ، وقانونها تحصيل اللذة التي لا تتورط في غضب الجماعة ، ولا غضب الآلهة ، بمخالفة العرف المرعي ، مما تكون عاقبته ألما باقيا في الحياة وبعد الممات . فإذا كانت اللذة المبتغاة لا تنال إلا عن طريق مخالفة أمر الجماعة ، وهو دائما أمر الآلهة ، فإن اتجاه إرادة الحرية التخلي عن ابتغاء تلك اللذة ، رجاء الحصول على لذة أكبر منها ، من ثواب الجماعة ، ومن ثواب الآلهة ، وذلك خير وأبقى . وبهذا دخلت في الحياة القيم التي تجعل الفرد البشري يضحي باللذة الحاضرة في سبيل لذة مرتقبة ، أو يضحي باللذة الحسية العاجلة في سبيل لذة معنوية عاجلة أو مؤجلة ، كرضا المجتمع عنه ، وثقتـه بـه ، وثنائه عليـه ، أو كرضا الآلهة عنـه ، ومجازاتـها إياه ، في هـذه الحيـاة ، أو في الحياة المقبلة . واستمر المجتمع البشري ينمو ومعه ينمو عرفه وعاداته ، ويتحدد هذا العرف ، ويتخذ صورا دقيقة ، وحاسمة ، ويجئ أنبياء الحقيقة ، ويدخل تشريع الحرام والحلال ، واعتبارات الجنة والنار ، وأوصاف الإله . فان أنبياء الحقيقة ، ورسل الإنسانية لم يجيئوا ليقولوا للناس أن لهم خالقا ، فإن ذلك قد سبقتهـم إليـه رسـل العقـول . ولكنهـم جاءوا ليعينـوا العقـول على معـرفة الخالـق بتعليمها أسماءه وصفاته وأفعاله . وأما أنوار العقول فإنها قد نشأت من نار الاحتكاك الـذي ظـل جاريا بيـن (( إرادة الحياة )) و (( إرادة الحرية )) بفعل الخوف القديم ، الذي دفعته في قلب الإنسان الأول القوى الصماء ، التي زخرت بها بيئته الطبيعية التي عاش فيها . ولقد قلنا أن إرادة الحرية لا تختلف عن إرادة الحياة اختلاف نوع ، وإنما تختلف اختلاف مقدار ، ونعني أن إرادة الحرية هي الطرف الرفيع ، الشفاف ، من إرادة الحياة .. أو قل هي الروح ، حين تكون إرادة الحياة بمثابة النفس .. فإرادة الحياة حواء البنية البشرية ، وإرادة الحرية آدمها ، والعقل هو نتيجة اللقاء الجنسي بين آدمها وحوائها هذين . وفي مرتبة اللقاء الجنسي الذي ينتج العقل فإن لإرادة الحياة اسما آخـر ، هو الذاكرة ، وإرادة الحرية هي الخيال . والذاكرة هي حصيلة التجارب السوالف جميعها ، ومن ثم فقد أسميناها النفس ، في موضع آخر ، وقد ورد أن القصاص المراد به تقوية التخيل عند من يحتاج أن يوضع بالقصاص في موضع ضحيته . والتخيل هو إسم آخر للذكاء ، وهو القدرة الدراكة ، والإرادة الكابتة لرغايب النفس التي لا يرضى عنها القانون . والذكاء يعمل في توجيه رغايب النفس بفعل الخوف فيه ـ أو قل بفعل الرغبة والرهبة فيه ـ وهـو ، كلما أحسن السيطرة على رغائبها ، كلما زاد قوة ومقدرة على التمييز . وهي قد تزداد مطاوعة ، أو تزداد تمردا ، تبعا لمقدرته هو على العدل ، أو عجزه عنه ، وركوبه مركب العنف والشطط . وإذ ولد العقل في بيت منقسم ، من أبوين متشاكسين .. أم شهوانية ، جامحة ، شديدة النزوات ، كثيرة الرغايب ، وأب ضعيف ، جبان يسوقه الخوف إلى العنف ، فيرد مطالبها في شدة وصرامة ، قد تبلغ به أن يحيف عليها ويكبتها في غير موجب للكبت ، فإن طفولته لم تكن سعيدة ، بل كانت طفولة مشردة ، حانقة ، كثيرة الجنوح والانحراف ، وقد ظهرت عليه خصائص أبويه ، وأثر فيه جو البيت الذي ولـد فيه ، فجاء منقسما على نفسـه أيضـا ، بعضه يقـف في مناهضة بعضـه الآخـر ، وقديـما قيـل (( البيت المنقسم لا يقوم )) . ولقد ترسب الخوف في أغوار النفس منذ نشأة الحياة ، وقبل ظهور البشر على مسرحها ، ثم نشب الصراع الطويل بين (( إرادة الحياة )) و (( إرادة الحرية )) الذي صحب ظهور البشر على مسرح الحياة ، والذي لا يزال يتسعر ضرامه إلى اليوم ، ولقد نتج عن هذا الصراع أن بعض الرغائب المحرمة ، والتي كانت تتحرك طليقة قبلا ، قد كبلت بالأغلال ، وكبتت ، وأصبحت حبيسة في سراديب مظلمة من حواشي النفس . وكل هذه الرغائب أصيلة ، وكثير منها ، لطول ما حبس في الظلام ، فقد البصر ، وفـقد القدرة على الحركة ، ولكنه لم يمت ، وهو ينتظر أن يفرج عنه ، من هذا المحبس يوما من الأيام . فالنفس البشرية اليوم معرضة لآفات كثيرة .. خوف ترسب فيها قبل أن تصبح بشرية ، وذلك بين فجر الحياة البدائية الأولية ، وعهـد ظهـور البشر على المسرح ، وكبت موروث منذ ظهور المجتمع البشـري ، وإلى أن يولـد أحدنا ، ثم كبت مكتسب في حياة الفـرد ، بين ميـلاده ووفاتـه ، حيث يتسلط القانون ، والعـرف ، والرأي العـام على تكبيل رغائبه التي لا تجد الموافقة على تحركاتها ، وتعبيراتها في حرية وطلاقة . وكل الكبت بفعل الخوف ، فالخوف ، سواء كان الخوف البدائي ، الساذج ، الذي لا مبرر له ، أو كان الخوف العاقـل ، المـوزون ، المعـروف الأسباب ، المعقـولها ، قـد ترك طابعه على النفس البشرية بصورة مزمنة . والخوف ، من حيث هو ، هـو الأب الشرعي لكل آفات الأخلاق ومعايب السلوك ، ولن تتم كمالات الرجولة للرجل وهـو خائف ، ولا تتـم كمالات الأنوثـة للأنثى وهي خائفة ، في أي مستوى من الخوف ، وفي أي لـون من ألوانه ، فالكمال في السلامة من الخوف . ولن يتم تحرير الفرد من جميع صور الخوف الموروث إلا بالعلم .. العلم بدقائق حقيقة البيئة الطبيعية التي عاش ، ويعيش فيها ، والتي كانت سببا مباشرا لترسيب الخوف في أغوار نفسه ، فإن الخوف جهل والجهل لا يحارب إلا بالعلم .. ومن أجل ذلك وجب الاهتمام بإعطاء الفرد صورة كاملة ، وصحيحة ، عن علاقته بالمجتمع ، وعن علاقته بالكون ، وهو ما نحن بصدده منذ حين .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هل كان محمود محمد طه الشخص الوحيد المُخيّ� (Re: Yasir Elsharif)
|
كما أضع هذه الفقرات من كتاب "القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري" للأستاذ محمود محمد طه لعلها تعين على فهم المسألة.
الإنسان مسير وليس مخيرا
في القرآن حل مشكلة الجبر والاختيار، مافي ذلك أدنى ريب .. ولكن القرآن لا تفهمه إلا العقول التي تأدبت بأدب القرآن – أدب شريعته، وأدب حقيقته – وكون الإنسان مسيرا هو أصل التوحيد .. فإنه، إن يكن مخيرا، فإن اختياره، إما أن يكون نافذا، في جميع الحالات، فيكون، بذلك، مشاركا للخالق في فعله، أو يكون معطلا، في بعض الحالات، فيكون، بذلك التعطيل، مسيرا إلى أمر لم يختره، فهو، بذلك، وفي نهاية المطاف، مسير .. إن الخالق لواحد .. وإن الفاعل، وراء كل فاعل، لواحد .. والوهم هو الذي طوع لأنفسنا نسبة الأفعال لغير الفاعل الأصلي .. قال تعالى في ذلك: (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه، فتشابه الخلق عليهم؟؟ قل الله خالق كل شيء .. وهو الواحد القهار) .. قوله: (خلقوا كخلقه، فتشابه الخلق عليهم ..)، هذا هو موطن الداء، ومجال التلبيس .. والتوحيد إنما هو وضوح الرؤية التي بها يقع التمييز بين المتشابهات .. وعن هذا الوهم الذي تورطنا فيه، فزعمنا لأنفسنا إرادة مستقلة عن إرادته، حرة، متفردة، بالعمل، أو بالترك، يحدثنا تعالى في هاتين الآيتين اللتين هما آية في دقة كشف حجاب الوهم .. قال تعالى: (هو الذي يسيركم في البر، والبحر، حتى إذا كنتم في الفلك، وجرين بهم، بريح طيبة، وفرحوا بها، جاءتها ريح عاصف، وجاءهم الموج من كل مكان، وظنوا أنهم أحيط بهم، دعوا الله، مخلصين له الدين، لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين .. * فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق .. يأيها الناس!! إنما بغيكم على أنفسكم .. متاع الحياة الدنيا، ثم إلينا مرجعكم، فننبئكم بما كنتم تعملون) .. وسبب الغفلة سعة الحيلة، والشعور بالاستغناء: (كلا!! إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى) .. وحيلتنا في البر أوسع من حيلتنا في البحر، وبخاصة إذا هاجت العواصف على البحر .. (جاءتها ريح عاصف، وجاءهم الموج من كل مكان، وظنوا أنهم أحيط بهم) .. ههنا تنفد الحيلة ويكون اللجأ إلى الله، ويعرفه من كان قبلا من الجاحدين ويتوجه إليه من كان قبلا من الغافلين: (دعوا الله، مخلصين له الدين، لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين) .. هذا هو حال من تقطعت به الأسباب، وقعدت به الحيلة، وأفاق من غفلته باستشعاره الحاجة الملجئة .. هذا هو حالي، وحالك، عندما يلح علينا الوهم .. ثم أنه، سبحانه، وتعالى، يحكي حالة أخرى: (فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق) .. فعندما وطئوا البر استشعروا القدرة على الحيلة، والتدبير فعاودتهم الغفلة من جديد .. فورد الخطاب من الحق: (يأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم، متاع الحياة الدنيا ..) .. يعني أن غفلتكم لن تجد فرصتها إلا خلال الحياة الدنيا .. أما في الحياة الأخرى فإنكم تواجهون مشكلتكم، كل لحظة .. فهي تلح عليكم إلحاحا، وتسلط عليكم تسليطا، فلا تجدوا فرصة للغفلة .. وهذا هو معنى قوله تعالى: (ثم إلينا مرجعكم، فننبئكم بما كنتم تعملون) .. يومئذ لن تكون هناك فرصة لتوهم التخيير، وإنما هو التسيير .. لا لبس فيه ولا غموض .. والله، تبارك، وتعالى، يريد لنا أن نستيقن هذا التسيير، منذ اليوم، ولذلك هو يعلمنا أن الذي يسيرنا في البحر، حيث لا حيلة لنا، هو نفسه الذي يسيرنا في البر، حيث نتوهم الحيلة .. قال تعالى: (هو الذي يسيركم في البر، والبحر) ثم اسمعه في موضع آخر، وهو يسوق الحجج الدوامغ ضد وهمنا، ابتغاء تخليصنا منه: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم .. وكان الإنسان كفورا * أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر، أو يرسل عليكم حاصبا، ثم لا تجدوا لكم وكيلا؟؟ * أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى، فيرسل عليكم قاصفا من الريح، فيغرقكم بما كفرتم، ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا؟؟) .. هذه حجج، في غاية القوة، ضد الغفلة التي تستولي علينا عندما نستشعر القدرة .. الإنسان بين التسيير والحرية
إن التسيير هو مذهب التوحيد .. وسوق الإنسان إلى استيقان ذلك التسيير هو وظيفة الكلمة: (لا إله إلا الله)، التي هي روح الإسلام .. والإسلام يقرر هذا التسيير بصورة لا تدع مجالا للشك، قال تعالى، في ذلك: (أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السموات، والأرض، طوعا، وكرها، وإليه يرجعون؟) .. ولقد سير الإنسان في مراتب ثلاث، بوسائل ثلاث .. سير وهو في مرتبة المادة غير العضوية، وذلك منذ أن كان ذرة هايدروجين، وإلى أن أصبح خلية حية، تسييرا مباشرا بواسطة الإرادة الإلهية المسيطرة، والهادية .. ثم سير في مرتبة المادة العضوية، منذ أن كان خلية حية، وإلى أن أصبح حيوانا سويا، تسييرا شبه مباشر، وذلك بإرادة الحياة .. ثم سير تسييرا غير مباشر، منذ أن أصبح إنسانا بدائيا، وإلى يوم الناس هذا، وذلك عن طريق إرادة الحرية .. وإرادة الحرية معنى زائد عن إرادة الحياة .. إرادة الحرية قيمة، وهي قد دخلت، بدخول العقل في المسرح .. وفي هذه المرحلة أصبح التسيير من وراء حجاب العقل .. هذا ما عنيناه بقولنا أن التسيير، ههنا، قد أصبح غير مباشر .. ولقد تحدثنا، آنفا، عن لطف تدخل الإرادة الإلهية في الإرادة الإنسانية، حتى أنها لم تنزعج، ولم تستشعر سلبا لحريتها .. وإنما كان ذلك كذلك لأن الإرادة الإلهية إنما تتدخل في الإرادة البشرية عن طريق العقل .. وهو تدخل من اللطف بحيث يشعر العقل البشري أنه صاحب المبادرة، فيما يأتي، وما يدع، من الأمور .. فهو، إن ضل، فإنما هو قد اختار أن يضل .. وهو لا يرى الضلال في ذلك، وإنما يرى أنه مهتد .. قال تعالى، في ذلك: (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا؟؟ فإن الله يضل من يشاء، ويهدي من يشاء .. فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ... إن الله عليم بما يصنعون ..) .. فهو قد (زين له سوء عمله فرآه حسنا) .. والحكمة، كل الحكمة، في دقة التسيير وردت في عبارة (فرآه حسنا) .. وهو، إن اهتدى، فإنما هو صاحب المبادرة في الهداية .. ولا يرى لغيره فضلا في هدايته، إلا قليلا .. ويذهل عن الحقيقة التي تشتمل عليها هاتان الآيتان: (واعلموا أن فيكم رسول الله، لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم .. ولكن الله حبب إليكم الإيمان، وزينه في قلوبكم .. وكره إليكم الكفر، والفسوق، والعصيان .. أولئك هم الراشدون * فضلا من الله، ونعمة .. والله عليم حكيم) .. فقد يبدو، إذن، أن التسيير لا ينافي الحرية، لأن عنصر الاختيار في العمل قائم .. والحرية، في أبسط صورها، هي مسئولية، والتزام، وتصرف وفق شريعة يكافأ فيها المحسن بإحسانه، ويجازى فيها المسيء بإساءته .. وهذا هو ما عليه الأمر في التسيير، فإنه يقع على مستويين: مستوى القانون العام، ومستوى القانون الخاص .. فأما القانون العام فإن به تم تسيير المادة غير العضوية، وتسيير المادة العضوية، إلى أن بلغت هذه أدنى منازل العقول .. والقاعدة القانونية فيها قوامها: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا، يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا، يره) .. وأما القانون الخاص فقد دخل مسرح الحياة بعيد ظهور العقل .. والقاعدة القانونية فيه قوامها (الحلال، والحرام) .. وهو محاكاة محكمة للقانون العام، فإنه في مقابلة: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا، يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا، يره)، فقد جاء بقوله: (وكتبنا عليهم فيها: أن النفس بالنفس .. والعين بالعين .. والأنف بالأنف .. والأذن بالأذن .. والسن بالسن .. والجروح قصاص .. فمن تصدق به فهو كفارة له .. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) .. والقانون الخاص نفسه يقع على مستويين: مستوى الشريعة العامة، ومستوى الشريعة الخاصة .. فأما الشريعة العامة فهي للمجتمع .. وأما الشريعة الخاصة فهي للأفراد .. وهذه الأخيرة أدخل في القواعد الخلقية، منها في القواعد القانونية .. وهي، بذلك، تتسامى، وتوكل بالتجويد، والإحسان .. والتسيير فيها، من ثم، ينفتح على التخيير، وذلك بفضل الله، ثم بفضل العلم الذي عصم الأفراد الذين يعيشون في مستواها، (الأخلاق)، عن التورط في مخالفة القواعد القانونية التي ترعى حقوق الجماعة في مضمار الشريعة العامة .. ولتوضيح مقام الشريعة الخاصة، من الشريعة العامة، يحسن أن نضرب مثلا بسنة النبي، في خاصة نفسه، وشريعته، لعامة أمته .. فإنه كنبي، قد كان فردا .. مستوى تكليفه أعلى من مستوى تكليف أمته، وذلك لمكان علمه بالله .. وهو، لما كان مجاله مجال الشريعة الفردية، قد كان أدخل في منطقة التخيير، منه في منطقة التسيير .. نخرج من هذا التقرير إلى أن التسيير إنما هو بالقانون، والقاعدة فيه أن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك، .. (كما تدين تدان) .. والحكمة وراءه أن يسلمك إلى التخيير، حين تحسن التصرف في حريتك الفردية .. وكلما زاد إحسانك في التصرف، كلما زادت حريتك اتساعا، وعمقا .. والقاعدة في ذلك: (هل جزاء الإحسان، إلا الإحسان؟؟) ..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هل كان محمود محمد طه الشخص الوحيد المُخيّ� (Re: Yasir Elsharif)
|
السلام عليكم دكتور ياسر .. تقول نقلاً عن الأستاذ محمود الآتي :
Quote: والروح الإلهي المنفوخ في البشر هو الإرادة .. والإرادة صفة متوسطة بين صفتين .. من أعلاها العلم ومن أسفلها القدرة .. وبالعلم والإرادة والقدرة أبرز الله العوالم إلى حيز الوجود ، وكذلك البشر إنما يعملون أعمالهم بالعلم والإرادة والقدرة ، فوقع الشبه بين الخالق والمخلوق |
وأعتقد أن الجان و الحيوانات كذلك لديهم العلم والإرادة والقدرة
فهل يقصد الأستاذ بالعلم .. العلم الذي أورثه الله إلى سيدنا آدم ؟
شكراً من قبل ومن بعد
| |
|
|
|
|
|
تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook
|
|