بقلم البروفيسور عبدالرحمن إبراهيم محمد هذا يوم جليل من قلائل الأيام التى أتهيب فيها أن أكتب حرفا أو أسطر قولا على الملأ. فقد كنت فى لحظة غضب عارم فى يوم من أيام عام 1970 حين آليت على نفسى مقسما أن لا أنشر شعرا منذ ذلك اليوم. واستدام ذلك إلى اليوم الثامن عشر من شهر يناير عام 2010 حين "تحللت" من عهدى لنفسى، بعد مأساة جريمة بشعة آلمتنى. فما كان من الممكن لى أن أصمت عنها. فكتبت قصيدة نفثت عن وجعى ونشرتها. ويومها إندهش كثيرون حتى أقرب الأقربين منى، لانه ما خطر ببال أحدهم أبدا أننى أقرض الشعر أو أستلذ بالعروض. فحتى فى لقاءآتنا الفكرية والثقافية كنت كثير الإستشهاد بشعر الشعراء وتستهوينى قراءته، بل ويطلبون منى ذلك إلحاحا. ولكننى لم أنوه يوما إلى كتابتى للشعر إلا لثلاثة من خلصاء النفس. وظللت بعد ذلك التاريخ من عام 2010 أنشر قليلا من قصائدى الحديثة. فكان الإلحاح من عدد من الأصدقاء أن أستخرج مما لا شك أن لى منه رصيد. فكنت أتحاشى ذلك. حتى كان يوم نشر مرثيتى فى محمد مفتاح الفيتورى، وكان قد ظلم حتى من الإستجابة لأمنيته الأخيرة، التى من المفارقة أنها تمنح حتى للمحكوم عليهم بالإعدام. ولكن الظلم تمدد فى وطنى وما عدنا نحمل بين جوانحنا تلك المشاعر الإنسانية؛ لأن من فرضوا أنفسهم على هذا الشعب الطيب خواء، ليس فيهم ذرة من شعور غير اللذة فى إزهاق الأرواح وقتل كل جميل، وجمع أموال السحت، وتكديسها مع زوجات تعددن، وكأنهن متاع منازل يتباهون بهن. ولكن، كما كان يقول شيخنا وأستاذى عبدالله الطيب رحمه الله "هذا شأن آخر". وحين بدأت فى نشر مرثية الفيتورى فى موقع سودانيز أون لاين كموضوع "الفيتورى يا يــاقــــوت الـشــــعـر" تداخل خازن التراث المتبحر فى الفلكور النوبى الأستاذ على عبدالوهاب عثمان ومعه الرجل الرصين والقارىء النهم السابح فى الفكر والأدب أخى الأصغر، الأستاذ أحمد الأمين أحمد، وكلاهما له مكانة خاصة فى نفسى. وأخذا فى المحاورة والتداخل حتى أستدرجانى بحكنة ولطف لأن أبدأ بالبوح عن كثير مما خزنته طوال تلك السنين الخمسة وأربعين، والستة وثلاثين التى قضيتها بعيدا عن الوطن. فأستحلبا ذاكرتى لأعرج على أمور كثيرة فى تاريخى لا يعلمها حتى أقرب الأقربين. وكان أن تحول البوست إلى توثيق لمبدعين عاشرتهم أو عاصرتهم أو صادقتهم وأيضا لشعرى فى رثاء بعضهم. وحبن تبين لهم غزارة القصائد وكثرتها بدأ الألحاح بضرورة نشرها فى ديوان إخترت له عنوان واحدة من أعز قصائدى إلى نفسى "نـزف العـيـن ودمـع القـلب" فى رثاء أمى الحبيبة الحاجة زينب هارون سليمان، طيب الله ثراها ووهبها من الرضا والنعيم والسعادة الأبدية على قدر ما غمرتنا به من حب وحنان ورعاية ومودة وصداقة. وسأدفع بالديوان للنشر فور إكتمال تنقيح المحتوى النثرى بإذن الله. فليهنأ أخى وصديقى الشاعر العبق الكلام رقيق أبيات العاطفة الشاعر المبدع الذى تنساب من يراعه أيضا قذائف شعر محمل بالصدق ونابع من القلب كزخات رصاص من الأمانة التى تصرع الخيانة والكذب والخداع. فشكرا لمولانا عبدالإله زمراوى لأنه ضميرنا، وشكرا لروعة كلماته وقوتها، وفوق ذلك شكرى له لأنه كان لحوحا دائم التحفيز لى لأنشر ما أختزنت من أشعار.
وقد أزف الوقت لأن أبوح بنصوص كنت أختزنها لأزمان طالت. ومن ضمنها رثائيتى فى أخى شاعر سنار البروفيسور محمد عبدالحى. رجل كان كالنسمة، كأريج المودة الذى يتضوع حميمية وصدقا فيجذبك إليه ويحتويك عقله بمدارات فى الفكر والأدب والثقافة كما لم يتأتى لأحد غيره -- أو هكذا يخيل إليك. وكنا نشير إليه بعميد مدرسة الهمس وهم، مجموعة من الشعراء من جيله تميزوا بإنخفاض الصوت عند الحديث ورصانة فى الطرح ومنطقية فى ترافد الأفكار، وهدوء نفس محبب يجبرك على الإصغاء والمتابعة وكأنما يسرون إليك قولهم. وكان هو عميدهم وقدوتهم. ألا رحم الله الصديق الصدوق ومد له من كرمه نزلا يليق بشفافية قلبه النزيه وتواضعه الجم وحبه للخير والجمال والصدق. فلينم قرير العين؛ فقلوبنا تنبض بدعوات الحب له، وعقولنا تلتمع بجميل الذكريات من سيرته العطرة. وسع الله قبره ويسر رقدته ووهبه نعيما أزليا. لكننى ما كنت لأجروء على نشر نص مرثيتى فيه دون تقديمها أولا لرفيقة دربه وقد كانت نعم الرفيقة والصديقة والزوجه والأم والمثال النموذج للمرأة المعطاءة؛ أستاذتنا وأستاذة الأجيال الدكتورة عائشة موسى السعيد، ذات الفكر المتوقد والعقل المعطاء، الأديبة، رفيعة القلم، رزينه الكلمة، مالكة زمام اللغات وضروب الأدب والشعر. وهى فى المشاعر روضة فيحاء لطالما أطنب، رحمه الله، فى التغنى بمزاياها. فما كان غريبا عليها أن تظل إلى جواره، فى صبر الزهاد، ساهرة وهو يغالب المرض. وتضم فلذات كبدها وضاح وشيراز ومعتز وريل بعد رحيله فى حنان يجعل الشعور بألم الفراق محتملا بعض الشئ كما فى مقولة شاعر الرومانسية البريطانى وليم وردويرث: "هناك سكينة فى متانة الحب تجعل الشئ مطاقا والذى لولاه لقلب العقل أو فطر القلب." فإجلالا لها رأيت أن أقدم القصيدة بين يديها أولا قبل نشرها كاملة لأول مرة. فلم ينشر منها من قبل سوى أبيات قليلات ضمن حديثى حول شاعرنا الراحل فى ذلك البوست الذى ذكرت عن الفيتورى. فلك كل التقدير و عزائى المتأخر أختى "عشه": ------------------------ بوسطن 9 فبراير 2016 فى سويداء فؤاد سنار مرقدك سنارُ قد خَمدتْ مشاعِلُها وأُوُصِدتْ أبوابُها وزوىَ البريق ُ على الوجوهِ وأطبق القحط ُ المُقيمُ "على التِّلال السودِ والأشجارِ" والغاباتِ والصحراءْ فما "رجعت طيور البحر فَجْرَاً من مسافاتِ الغيابْ" لتحاضن الأرضَ الخواءْ ولا رقصت حوافرُ خيلنا فى عز مجدٍ آفلٍ وممالكٍ "زرقاءْ" فحارَ دليلـُنا وتسابقتْ أفكارُنا لنعودَ بالذكرى إلى رجعِ الصدى يوم أنبريتَ لنا تستنهضُ الهممَ المهيضةَ ثم أطلقت النداءْ وضربتَ فى أعماقِ تاريخٍ وجبتَ أصقاعِ البلادِ تدعو جحافلَ قومنا لمدارج ٍشماءْ ولبستَ من جلدِ النمورِ عباءةً والفهدُ فى كفيكَ صار مخالبًا هتكت ستارَ الزيفِ والتضليلِ وكلَّ فريةٍ بلقاءْ وسمقتَ تقرعُ طبلَ العزِ طنَّ نحاسهُ والرأسُ مزدانٌ بقرنى فارسٍ طاقيةً صفراءْ مُتَمنطقـًا درعا من ظهرِ تمساحٍ وغمستَ سيفكَ فى المدادِ مخضبًا فأعدتَ لنا سنارَ زاهيةً أنشودةً عصماءْ وقدتَ جموعنا آلافـًا مُؤلَفة وجحافلاً تدعو إلى رصِ الصفوفِ لنخمدَ نارَ أحقادٍ وحربَ الردةِ الحمقاءْ فكنتَ بشيرنا للخيرِ للآمالِ والأحلامِ تنشرُ ودًا خالصًا فلا تـُسفكْ دماء طَرِبَتْ سنارُ نشوى إليك تشوَّقتْ... نادتْ عليكَ ليحتويكَ فؤادُها وبَسَطتْ فراشك َ فى رحمِ الحشا ليضُم نـُبلكَ طمىُ النيلِ والحصباءْ ------------------------- بوسطن - الولايات المتحدة 31 أغسطس 1989
هذه المرأة الدكتورة عائشة السعيد مفخرة للمرأة السودانية لا أدرى لماذا لم يتم تكريمها وهى الأستاذة المربية التى علمت وخرجت أعدادا لا تعد ولا تحصى. وهى أديبة ممتازة لها إسهامات كثيرة فى مجالات الفكر والأدب والثقافة.
مع الأسف الشديد نحن أمة لا تقدر العقول والمبدعين وكل الذين يهبون هذه الأمة جهدهم وعرقهم وفكرهم.
ناهيك عن ما ذكرة البروف عنها وعن عظمتها ووفائها لعلم من أعلام الوطن وشاعر فريد، هى امرأة سودانية اصيلة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة