في البدء لا بد من الإشارة والإشادة بقلم الأستاذة الكبيرة/ مديحة عبد الله رئيسة تحرير الميدان الغراء وذلك لتناولها في عمودها للقضايا المباشرة التي تمس حقوق الشعب السوداني وحرياته وبرؤى عملية ومتقدمة ، ولقد عرفت الأستاذة مديحة منذ أن كانت صحافية بجريدة الأيام الغراء وهي تعمل وسط صحافيين أفذاذ على رأسهم الأستاذ الكبير محجوب محمد صالح وصديقي الراحل الحبيب تاج السر مكي صاحب القلم الرصين ولقد فقدت الصحافة السودانية بفقده مدرسة فذة من مدارس الرأى والإلتزام بقضايا الشعب السوداني وعلى هذا المنوال سارت الأستاذة مديحة وقد أسعدني ما قرأته قبل عدة أسابيع في عمودها حول الظروف الصحفية الرآهنة في السودان حيث علقت على ضرورة التعامل مع الصحة كحق إنساني بدلاً من جعلها إستثماراً وخدمة وبالتركيز على الجانب الإستثماري وبناء المستشفيات بصورة تركز على التخطيط والصرف على مؤسسات الطب العلاجي على حساب التركيز على الطب الوقائي وطب المجتع بينما كان من المفترض الوضع في الإعتبار أن الوقاية والعلاج يكملان بعضهما فلا ينفصمان وكان على المخطط الصحي السوداني بدلاً من إستعمال لغة التجارة في مجال الصحة أن يسعى بصورة علمية لتحديد المشاكل الصحية في المجتمع السوداني وجمع المعطيات وتحليلها ، وبهذا وحده يتم تقديم الخدمة الطبية الملائمة لصون الحقوق الصحية للمواطنين ، وهذا هو الإتجاه العصري السائد اليوم في مجالات التخطيط الصحي فلم تعد الدوائر الطبية تهتم فقط بالجسم البشري وتشريحه وفزيولوجيته وما يطرأ عليه من تغيرات مرضية و إغفال التغيرات التي تكمن وراء التغيرات والأحوال البيئية ، ذلك أن العملية العلاجية وحدها لن تنتهي وسيعود المرض متى ما عاد المريض إلى البيئة التي سببت له المرض . في الجدل الذي يجري حالياً حول حقوق الإنسان نجد أن الكثير من التركيز ينصب على المتطلبات المادية الأساسية التي توفر حياة كريمة لكل بني البشر وغني عن البيان أن يقال إن حقوق الإنسان الأساسية تتضمن الرعاية الصحية الضرورية. سأتناول في هذا الحيز مفهوم الصحة كحق إنسائي على المستويين المحلي والدولي – مشيراً إلى عدد من المشكلات الصحية الموجودة في السودان والتي تؤثر في حقوق الأفراد الصحية مع التركيز على ضرورة حماية وترقية هذه الحقوق. خلفية تاريخية : منذ فجر التاريخ الإنساني المسجل وجد الإنسان وهو يعيش في جماعات ، إنه من الضروري وضع منهج يُعني بالمسائل الصحية فسعى وسعه إلى الإهتمام بالصحة وتجنب المرض والمحافظة على الحياة وهكذا إستعمل الإنسان أدوات الدين والسحر والفلكلور والعلوم من أجل الوصول إلى هذه الغاية . إن كل أمة معنية بصحة شعبها وما ذاك إلا لأن الأمة المنتجة هي الأمة التي يتمتع أفرادها بمستوى عالٍ من الصحة . إن الإرتفاع الذي طرأ على معدلات الإنتاجية كنتيجة لحملات مكافحة الملاريا التي قامت بها هيئة الصحة العالمية ، في بعض الدول التي إستوطنت فيها الملاريا إنما يعد دليلاً على وجود العلاقة الوثيقة بين مفهوم الصحة والإقتصاد والسياسة والرفاه الإجتماعي ، لقد كانت الصحة كحق إنساني – هي آخر حق تم النص عليه في دساتير معظم دول العالم في القرن العشرين وقد خلت دساتير الدول في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من النص على هذه الحقوق بينما وجدت الحقوق الأخرى الحظ التفصليي في النص عليها. في الدساتير الحديثة تمت الإشارة إلى حق الصحة ولكن ليس بإعتباره حقاً على وجه التحديد والتسمية وإنما بالإشارة إلى الحق في الحماية الصحية وقد تمت الإشارة لحق الصحة في دستور السودان لسنة 1973م بإعتباره منطوياً ضمن حقوق أخرى مثل حق الغذاء والكساء والسكن والحرية والخصوصية وعلى المستوى العالمي فقد جاء في المادة (25) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: أن لكل إنسان الحق في مستوى من المعيشة كافٍ لصحته ورفاهيته هو وأسرته ويشمل ذلك الغذاء والكساء والسكن والرعاية الطبية والخدمات الإجتماعية الضرورية والضمان الإجتماعي في حالة البطالة أو المرض أو العجز أو الترمل أو الشيخوخة أو أي عوز في سبل كسب الرزق بسبب خارج عن إرادته . وتمضي المادة (25) من الإعلان العالمي فتعطي الأمومة والطفولة حق العون والرعاية الخاصة . وتعطي جميع الأطفال الذين ولدوا داخل أو خارج المؤسسة الزوجية الحق في التمتع بهذه الحماية الإجتماعية. وفي عام 1948م قامت الأمم المتحدة بإنشاء منظمة الصحة العالمية ( (W.H.O وهي هيئة تغطي أهدافها كل الجوانب الصحية لكل الشعوب ، وهي بأساليب مختلفة ومتعددة تمد يد العون للدول من أجل ترقية وتحسين المستوى الصحي لشعوبها ، وقد ورد في ديباجة الدستور الخاص بهيئة الصحة العالمية التأكيد على أنه من الحقوق الأساسية لأي إنسان التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة وأنه تقع على الحكومات مسؤولية ذلك تجاه شعوبها. في عام 1970م أقرت منظمة الصحة العالمية في إجتماعها الثالث والعشرين إعلاناً يقضي بإعتبار (حق الصحة) حقاً من الحقوق الأأساسية للإنسان وفصلت فلسفة هذا الحق في إعلان لاحق أوضحت فيه أن تمتع كل الشعوب بأعلى مستوى ممكن من الصحة هو هدف طويل المدى من أهداف منظمة الصحة العالمية وأن تحقيق ذلك يتطلب في المقام الأول إنشاء أنظمة صحية قومية في كافة الدول . وقد أوصى هذا الإعلان على وجه التحديد بالآتي: ( ... إنه يجب على الدول وهي تسعى لحماية صحة مواطنيها أن توظف كل مقوماتها الإقتصادية والإجتماعية والتي تمكن بصورة مباشرة أو غير مباشرة من الوصول لأعلى مستوى ممكن من الصحة – وذلك عن طريق تأسيس نظام صحي يقوم على التخطيط القومي والمحلي لإحتياجات الخدمات الصحية وعن طريق تفعيل كل القوى والإستفادة من كل الموارد التي يستطيع المجتمع توفيرها ورصدها من أجل هذه الغايات ). يتضح من كل هذه الإعلانات أنه يقع على عاتق الدول واجب حماية مواطنيها من الأمراض المعدية والعقاقير الخطرة والتلوث البيئي وقد تم في هذا الصدد الوصول لعدد من الإتفاقيات الدولية من أجل توفير هذه الحماية وعلى سبيل المثال فهناك قوانين أو نظم الصحة العالمية وميثاق العقاقير المخدرة (1961م) والميثاق الخاص بعقاقير المعالجة النفسية (1971م) . وعلى الرغم من أن حق الصحة يمكن أن يفسر في نطاق عدم جواز الحرمان منه بسبب إعتنداء الآخرين (كالذي يحدث الآن في فلسطين والعراق واليمن ومناطق الحروب الأهلية بالسودان) إلا أنه يبدو أن منظمة الصحة العالمية تفسر هذا الحق في نطاق أنه الحق في التمتع بالرعاية الصحية . وفي هذا السياق يصبح هذا الحق قابلاً للتنفيذ بحكم القانون بمعنى أن هناك إمكانية لخلق هذا الإلتزام القانوني وتطبيقه على الأفراد والمجتمعات . ولقد أدى ورود مفهومي (الصحة) و (الرعاية الطبية) ضمن المادة 25 (1) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلى وجود مواد مشابهة في كل من الميثاق الإجتماعي والأوربي (المادة 11) والميثاق الأفريقي (المادة 16) ، وهذه المواد تعطي كل فرد الحق في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة الجسدية والعقلية ومن بين جوانب تم إفرادها وردت الإشارة الخاصة لوفيات الأطفال وصحة البيئة والصحة الصناعية والأمراض الوبائية والمستوطنة والأمراض المهنية ، كذلك وردت الإشارة إلى تطوير الخدمات الطبية وتشجيع المسؤولية الفردية في المسائل الصحية. في عام 1978م كانت منظمة الصحة العالمية قد أصدرت إعلاناً يرمي إلى بسط الصحة للجميع بحلول عام 200م وقد نصت المادة (5) من هذا الإعلان على أنه من واجب الحكومات العناية بالمسائل الصحية لشعوبها وإن هذا الواجب لا يمكن أن يتم إلا عن طريق وضع الضوابط القانوينة والإجتماعية المناسبة في الحقل الصحي ، وتمضي المادة (5) فتنص على أن الرعاية الصحية الأولية هي مفتاح الوصول إلى هذا تمشياً مع روح العدالة الإجتماعية. ولكن وعلى الرغم من وجود كل هذه الإعلانات السامية والأهداف النبيلة نجد أن روح العدالة الإجتماعية لا تجد لها مكاناً في كثير من دول العالم. ففي الدولة النامية – خاصة في أفريقيا – نجد أن الحكومات قد أهملت منذ زمن بعيد كل المسائل المتعلقة بصحة شعوبها ولم تفعل شيئاً في سبيل حماية حق الصحة المعترف بها عالمياً . وعلى العموم فإن الأقليم الإفريقي كان بطيئاً في سعيه لخلق الهيئات والمؤسسات الإقليمية التي تشكل آلية فاعلة تسعى لتطبيق وحماية مبادئ حقوق الإنسان الوارد ذكرها في ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. المشاكل الصحية في السودان : من نميري إلى الإنقاذ : كما ذكرت آنفاً فإن دستور السودان لسنة 1973م قد نص على حماية صحة المواطن السوداني وورد ذلك ضمن حقوق أخرى كحق الغذاء والكساء والسكن وإدعت الحكومة السودانية وقتها بأن هذا الإتجاه هو الذي يؤدي إلى ترقية صحة المواطنين ، ولكن الباحثين في مجالات الصحة في الدول النامية وكل المعنيين بحماية حقوق الإنسان قد أصابتهم الدهشة عندما اكتشفوا – حتى من واقع الوثائق الرسمية والمنشورات – أن إنتهاكات الحقوق الصحية للمواطنين يمكن ملاحظتها بكل يسهولة ، فقد أوضحت دراسة قامت بها وزارة الصحة السودانية عام 1976 وتم نشرها في مجلة - سودان ناو- نوفبمر 1979م أن 20 % من السكان ينتفعون بالخدمات الصحية التي تقدمها الدولة ، أما بقية ا لــ 80 % من الرعاة وسكان الارياف فلا تصلهم هذه الخدمات . وقد أشارت تلك الدراسة إلى النقص الكبير في الإمدادات والمعدات إلى جانب انعدام الدافع لدى العاملين للذهاب لتلك المناطق النائية. وفي دراسة رسمية أخري أصدرتها وزارة الصحة السودانية كبرنامج قومي صحي يغطي السنوات 1977/78-1983-84 وقامت بنشرها دار جامعة الخرطوم للنشر – اتضح أن توزيع الأطباء على مناطق السودان المختلفة وقد جاء غير متوازن من الناحيتين الكمية والنوعية ووضح من الوثيقة الرسمية أن 50 % من الأطباء العموميي والإختصاصيين يتركزون في العاصمة والإقليم الأوسط ومع مرور السنوات من صدور هذا البرنامج الرسمي لم يتغير الوضع وظل عدم التوازن في توزيع الأطباء على ما هو عليه. وفي عام 1982 أوضح التقرير الإحصائي الصادر من وزارة الصحة السودانية أن 1273 طبيباً يتركزون في مديرية الخرطوم بينما تم رصد 827 طبيباً لكل الأقاليم الأخري. وبالنظر للتوزيع السكاني في كل الأقاليم نستظيع أن نلمح بسهولة عدم التوازن والعدل بين مناطق الريف ومناق الحضر. أما بالنسبة لخدمات الطب النفسي في السودان في عهد نميري والفترة الإنتقالية فلم تتوفر هذه الخدمات لكل السكان وقد أوضحت دراسة أصدرتها جامعة الأحفاد عام 1985 أن خدمات الطب النفسي الموجودة غير ملائمة وفقيرة وتنعدم تماماً في مناطق الريف. كما أوضحت هذه الدراسة بؤس الحالة المزرية للمرضى بمصحة كوبر حيث لا دواء ولا غذاء ولا كساء إلى جانب قلة الكوادر الطبية العاملة، مما يعدّ نوعاً من المعاملة غير الإنسانية والمحطة لكرامة الإنسان التي لا يقرها دستور السودان وقتها ولا المعايير المقبولة عالمياً . وعلى وجه العموم وفي عهد الحكومة المايوية ، فقد كانت الأمراض الناتجة عن تدهور الأحوال البيسية التي تمثل الجانب الأكبر من المشكلات الصحية في السودان وقد أوضحت الدراسات التى تمنشرها في عام ذ975م أن الأمراض التى تسببها الطفيليات هي من الأسباب الرئيسية لإرتفاع نسبة الوفيات بين السكان. وأشارت الدراسات إلى أن الدرن والملاريا وأمراض الجهاز التنفسي من أكبر أسباب الوفيات وسط البالغين ، أما الأسباب الرئيسية للوفيات وسط الأطفال فهي الإصابة بالإلتهابات المعوية والملاريا والإلتهابات الرئوية وسوء التغذية. إن هذه الصورة الإحصائية القاتمة للأحوال الصحية في السودان في الثمانينات إن قورنت بالأحوال الصحية للمواطنين القائمة الآن في عهد حكومة الإنقاذ، لبدت أقل قتامة مما هو الحال في عهد الإنقاذ وقتامة الوضع الصحي في عهد الإنقاذ لا تحتاج إلى إحصائيات أو معلومات رسمية تؤكدها ، إذ يعيش الناس كل هذا في اللحم والدم وعلى مستوي القطر كله وأصبحت الخدمات الصحية مجالاً للإستثمار تجني منه الدولة نفسها الأموال الطائلة وقد وطال ذلك حتى أقسام الحوادث بالمستشفيات وقد تركزت الخدمات الصحية في الخرطوم التى نزح إليها المواطنون من كل أنحاء البلاد بسبب الفقر وإنعدام هذه الخدمات في مناطقهم حتى أصبح السودان بلا ريف . وهذا الظلم الإجتماعي وعدم التوازن التنموي يطال كل إقاليم السودان جنوبه وشرقه وغربه وشماله مما يعتبر كارثة يومية أثبتها التقرير الإستراتيجي لعام 1997م والذي ورد فيه أن 95 % من سكان السودان يعيشون تحت خط الفقر ، وعلى الرغم من أن دستور الإنقاذ لسنة 1998 قد نص على المادة (13) على أن تعمل الدولة على ترقية صحة المجتمع وحماية البيئة إلا أن الدولة تركت كل ذلك ليقوم به المواطنون الذين يعانون من العوز والفقر خاصة في مناطق الريف ويكفي أن نقول إن أعلى نسبة للإصابة بالسل الرئوي في العالم موجودة في ولايتي كسلا والبحر الأحمر وتجدر الإشارة إلى أن الفصل الأول من الباب الثاني في دستور الإنقاذ لسنة 1998 قد خلا من أي نص يدعو إلى حماية صحة المواطن السوداني بإعتبارها حقاً أساسياً من الحقوق الإنسانية . وأود هنا التعرض لمشكلة أسياسية تقف حجرة عثرة أمام التخطيط السليم للخدمات الصحية في السودان مما يؤثرسلباً على حقوق المواطن الأساسية في الرعاية الطبية. وتلك أن أي محاولة لتقديم صورة دقيقة وحقيقية عن معدلات الوفيات بالسودان محكوم عليها بالفشل ولأسباب أولها أن سجلات المستشفيات معيبة وناقصة في أغلب الأحوال ، أو منعدمة تماماً ، وثانيهما أن نظام تسجيل الوفيات ( حتى في أكبر المستشفيات ) لا يعول عليه . وكل هذا إنما يعكس عدم الإهتمام بصحة ورفاهية المواطن، وما ذاك إلا لأن الإرتقاء بصحة الموطنين يقتضي توفيراً للمعلومة الصحيحة والكافية كما يتطلب الإحاطة التامة بالمشكلات الصحية وهذا أمر ضروري من أجل التخطيط للخدمات الصحية. إن الحكومات التي تسعي جادة لترقية شعوبها هي تلك التي تدرك ماهية المشاكل الصحية التي تواجهها من حيث طبيعة هذه المشاكل وحجمها ومدى انتشارها وسط المجموعات المختلفة للسكان ( الصغار ، الكبار ، الرجال ، أو النساء – السكان في جزء من القطر بالمقارنة مع السكان في أجزاء أخري) . إن المقدرة على تحديد طبيعة وحجم المشكلات الصحية في أي قطر إنما تعتمد في الأساس على العملية الإحصائية والتي بناء عليها تتم ترجمة المعلومات إلى برامج ترمي إلى حماية صحة المجتمع كله. ولكن وعلى الرغم من أن السلطات الصحية السودانية تدرك تمام الإدراك أن القدر الكبير من المشكلات الصحية في السودان سببه الأحوال البيئية التمدنية إلا أن هذه السلطات ما زالت تعتقد انه من الصائب رصد أكبر قدر من ميزانية الصحة لخدمات الطب العلاجي هذا بدلاً من أن يرصد الجزء الأكبر من الميزانية لخدمات الطب الوقائي وطب المجتمع. وقد ظلت وزارة الصحة السودانية منذ السبعينات وحتى اليوم تعطي الأسبقية في رصدها الجزء الأكبر من الميزانية لتطوير خدمات الطب العلاجي وتحسينها مع العلم بأن هذه الوسائل ليست بالضرورة هي المثلى والمناسبة والفعالة في مكافحة الأمراض المستوطنة والوبائية الناتجة عن التدهور الكامل للبيئة في كل أحوالها. وما دام الحديث هنا تحديد الأسبقيات فإنه لا بد من التمييز هنا بين الرعاية الطبية التي تستهدف الحفاظ على الصحة والرعاية الطبية التي تستهدف الوقاية من الأمراض. ولأهداف هذا التمييز فأن الأمراض يمكن أن تقسم الى قسمين : أمراض يمكن الوقاية منها وأخري لا يمكن الوقاية منها ،وعموماً فإن الأمراض التى يمكن الوقاية منها هي تلك الأمراض التي يمكن التحكم فيها عن طريق إتخاذ الإجراءات الوقائية كالإرشاد الصحي وإصحاح البيئة والتطعيم. أما الأمراض غير القابلة للوقاية فهي تلك التي تتطلب سجلا طبيا علاجيا ولا يمكن مكافحتها عن طريق الإجراءات الوقائية. وأمام هذه المعطيات فإن مسألة رصد الموارد تصبح معتمدة تماماً على المتوفر من المعلومات الإحصائية، وبمعني آخر فأن تحديد الأسبقيات لغرض رصد الموارد يعتمد إعتماداً كبيراً على الإجابة على السؤال التالي : أي نوع من الأمراض يعطي خارطة الأمراض السارية في السودان ؟ الإجابة هي أن الأمراض التي يمكن الوقاية منها هي التي تغطي خارطة الأمراض السارية في السودان ، وعليه فإنه يصبح من المحتم رصد الجزء الأكبر من الميزانية والموارد لأغراض تحسين خدمات الطب الوقائي. إن الرأي القائل بإعطاء الأسبقية القصوى للطب الوقائي وطب المجتمع هو الرأي لذي يجد قبولاً عالمياً اليوم. إن الكثيرين ومن بينهم الكتاب في الحقل الصحي يؤمنون أن البيئة القذرة وغير الصحيحة هي السبب المباشر في تفشي الأمراض والمفهوم ضمناً من هذا الرأي هو أن مشكلات الصحة والمرض لا يمكن أن تحل عن طريق دراسة المرض في الأفراد فقط وإنما يتطلب ذلك فهماً شاملاً لظروف الحياة. إن وعينا المتزايد بأثرالسلوك الحياتي والبيئة على الصحة إنما يدعم الرأي القائل بأن رصد المال العام ووضعه في خدمة الطب العلاجي ليس هو الطريق الأمثل ولا الأسلوب الفعال الذي يقود إلى ترقية الصحة وإطالة أمد الحياة الصحيحة. وفي الحقيقة فإنه وعلى مستوي العالم فإن التحكم في الأمراض المعدية قد تم عن طريق تطبيق البرامج الوقائية الفعالة على كل السكان وليس عن طريق تقديم العلاج للأفراد . إن الحذر المتواصل ضروري من أجل التحكم في مثل هذه الأمراض وأن الطب الوقائي الحديث ما زال يسعي نحو هذه الغاية . إن إجراءات الطب الوقائي الحديث تستخدم في هذا المجال العديد من الأسلحة والوسائل وتطبقها على البيئة والأفراد والمجموعات على مدى امتداد الحياة فتبدأ قبل الميلاد ولا تتوقف إلا بتوقف الحياة ذاتها، وتشمل هذه السلسة من الإجراءات العديد من الوسائل كالتطعيم ضد الأمراض المعدية والتحكم في تلوث البية وتلوث الغذاء والماء والهواء وكشف الحالات عن طريق المسح الأبيديميولوجي وإستعمال تقنيات الفحص الصحي وتطبيق الوسائل الحديثة في التشخيص والعلاج وإعادة التأهيل وتقليل الحوادث والتأثير على أنماط السلوك البشري عن طريق الإرشاد الجماهيري والمهني وإرشاد المرضي ثم تطوير وتطبيق كل وسائل الرعاية الطبية الشاملة.
في السودان فإن حق المواطن الأساسي في الصحة لا يمكن أن يحمى عن طريق إعطاء الأسبقية والأولوية لخدمات الطب العلاجي والمطلوب هو استبعاد هذه السياسة واستبدالها بسيايسة تركز وتعني بخدمات الطب الوقائي. وصحيح كما يقال أن العلوم الطبية معنية بالحفاظ على الصحة ولكن القول بأن الهدف الأساسي للطب هو الوقاية وتجنب المرض يصبح أكثر واقعية وأكثر إنسانية وأجدى أيضاً من الناحية العملية ـ، ولكنها العقلية العقيمة التى تخلق المشكلات ، فنحن ننتظر وقوع المصيبة أو الكارثة أو المشكلة ثم نأخذها للطبيب ونتوقع أن نجد عنده الحلول .. إنها العقلية التي تتجاهل الفكرة القائلة بألأن المصائب والأزمات يمكن تجنبها بدلاً من انتظارها حتى تقع ثم الشروع في محاولة إزالتها .
إن هذه العقلية لا يمكن الركون إليها في تخطيط السياسات الملائمة المتعلقة بالرعاية الصحية، ثم إن مفهوم الصحة لا ينبغي أن يحصر فقط في معنى التعريف القائل بأن الصحة هي غياب المرض ، بل ينبغي أن يفسر وفق الطرح الذي يري أن الصحة في معناها الشامل هي المعافاة في الجسد والعقل والوضع الاجتماعي وهذا يتسق مع التعريف الذي وضعته منظمة الصحة العالمية لمفهوم الصحة وتحديد المفهوم هنا ضروري من اجل إعادة توجيه المجهودات والموارد وتصويبها نحو المشكلات الصحية الراهنة. غير ان احتضان مفهوم كهذا للصحة يستدعي بالضرورة وجود القرار السياسي الإيجابي الذي يهدف إلى خلق الظروف الإقتصادية والاجتماعية الكفيلة بتحقيق هذا المفهوم على أرض الواقع .ولكن هذا الإرتباط أوثق بين مفهوم الصحة والقرار السياسي لا يجد قبولاً لدى الدوائر الطبية التي ترى أنها دوائر علمية معنية في المقام الأول بعلاج الأمراض ولا صلة لها بالسياسة أو المسائل الإجتماعية ويعني هذا بالضرورة التركيز على الطب العلاجي وتوجيه المجهودات والموارد نحوه ولكن محاولة علاج الأمراض الموجودة هي عملية قد لا تنتهي أبداً والأسلم هو التحرك نحو توجيه الجزء الأكبر من الموارد ورصده لعمليات الوقاية والفحص والتحكم في الأسباب المؤدية للمرض ولن يتم ذلك إلا عن طريق القرار السياسي والفعل الإجتماعي . إن معظم المواطنين الذين يعانون من الأمراض والأوبئة إنما وجدوا أنفسهم مرضى بسبب الفقر والحرمان والعيش في أماكن غير صالحة للسكن ويؤدون أعمالاً متدنية وعلى العموم هم موجودون على هامش حافة البقاء. وفي مثل هذه الظروف فإن الدوائر الطبية والأطباء لا يجدون حيلة فيقفون مكتوفي الأيدي أمام هذه المشاكل . وجدير بنا هنا أن نذكر أن الأدواء الفتاكة التي أصابت الإنسانية في القرون السابقة كالكوليرا والسل والدفتيريا وحمى التايفود والحمي النمشية (TYPHUS) والحمى القرمزية والسعال الديكي، قد أصبحت اليوم مجرد تاريخ وذكريات. على الأقل في الدول الصناعية الغنية .. وعلى العكس من النظرة السائدة فأن هذه الأدواء لم تختفي بواسطة مجهودات الطب الحديث ولكن السبب الرئيسي والمباشر في اختفائها كما يحدثنا البروفيسور ( توماس ماكوين) في كتابه القيم ( دور الطب ) (The Role of Medicine) .. يرجع إلى ثلاثة عوامل : هي تحسين الأوضاع السكنية والنظافة والتصريف الصحي وتحسين الغذاء وتطوير الوسائل المنظمة للنسل بحيث يقل الطلب على الغذاء وبالتالي يقل إهدار الموارد الطبيعية، ولا يعني كل هذا إهمال الدور القيم لإجراءات التلقيح والتمنيع ( Immunization)(اتي تقف كضمان دون انفجار المرض من وقت لآخر.
أمام كل هذه المعطيات الحادثة والتاريخية فإنه يمكن أن نقول أن الفقر هو السبب الرئيسي الذي أدى إلى تدهورالأحوال الصحية في السودان ولا ينبغي أن تغيب هذه الحقيقة عن أذهاننا ونحن نخطط من أجل تحسين الأوضاع الصحية في السودان ويستدعى هذا بدوره إعادة النظر في السياسات الحكومية في هذا الشأن من حيث البرامج الخاصة بالتخطيط الصحية والخطط القومية الشاملة لمكافحة الفقر.
الخاتمة المستخلصة : على الرغم من أن المؤسسات الصحية الحكومية منها وغير الحكومية تركز على الطب العلاجي وبناء المستشفيات ( خمسة نجوم) إلا أن العملية العلاجية نفسها فاشلة في الكم من حيث التوزيع وفي الكيف من حيث التأهيل العلمي والإجادة ، وفاشلة أيضاً من حيث إحترام إنسانية الإنسان وكرامته بحيث لا توجد في بعض هذه الفنادق العلاجية دورات مياه كافية لمرافقى المرضى على الرغم من التكلفة العلاجية الباهظة التي تزيد من معاناة المواطن السوداني . أضف إلى ذلك وعلى والرغم من وجوب إلتزام الدولة بحماية المواطن من التلوث البيئي حماية لحق الصحة إلا أن الدولة حينما لا تنهض بهذا الإلتزام ، يقوم المواطن برفع الدعوى الدستورية ضد الحكومة فهنا تنهض العقلية التجارية لتحمي إستثمار الدولة في الصحة فتضع الرسوم القضائية التعجيزية كحاجز أمام المواطن الذي لا يستطيع دفع الملايين لخزينة المحكمة الدستورية هذا على الرغم من الإجراءات العقيمة التي تضعها السلطعات القضائية لكي لا يتمكن المواطن من القيام بالتقاضي بدون رسوم وهي معروفة لدى الكافة . ومما يؤكد فعالية العقلية التجارية لدى الحكومة هو أنه وحتى المحكمة الدستورية تضع رسومها بعد مشاورة وزير المالية ( السلطة التنفيذية ) . فأنظر لمثل هذا التغول من قبل سلطات تنفيذية على سلطات قضائية ، ومن الأنظمة الديكتاتورية فإن مثل هذا التغول له ما يبرره وهو أن كل مقدرات الناس تخضع وتستقل في أغراض التمكين السياسي للديكتاتورية . [email protected]
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة