في آخر إحصائية استطعت الحصول عليها مؤخرا تبين لي أن عدد الأحزاب السياسية المسجلة بالسودان يصل إلى 92 حزبا! نعم 92 حزبا بالتمام و وليس بالضرورة بالكمال. وحقيقة لا أتمالك نفسي من الدخول في تحدي حقيقي مع من يتمكن من رصد عشرة فقط من هذه الأحزاب، لا غير! وأقصد هنا المواطن العادي والمتتبع للحركة السياسية على حد سواء، هذا أذا افترضنا جدلا أن هنالك حراك سياسي في البلاد. فالحركة السياسية شأنها شأن الفعل التنموي والإقتصادي ترقد متكئة هانئة البال على أرائك الخمول والرتابة واللا جديد، غارقة في رومانسية مغلفة بالوعود الوردية لمسؤولينا من شاكلة التحول الديمقراطي الموعود وبشريات للشعب السوداني، وغيرها من تصريحات صارت عصية على التصديق! لماذا تبدو كل الأحزاب السودانية، دون استثناء، وكأنها في حالة أزمة دائمة؟ ولماذا نضبت أجندتها وأطروحاتها من كل ما يمكن أن يثير التفات المواطن نحوها؟ و ماهي هذه الأحزاب ال 92 ومن تمثل وما هي أهدافها وبرامجها التي أنشئت من أجلها؟ وما هي علاقتها بالمواطن السوداني؟ ولماذا لايعرف عنها المواطن أي شئ سوى لحظة ظهور بعض قادتها على الأجهزة الإعلامية للإعلان عن انشقاقاتها وانفجاراتها الداخلية و تفريخها المكوكي المتواصل لأحزاب وليدة متشاكسة. ويا ليت لو أن هذه الاختلافات ناتجه عن تباين في الرؤي والبرامج وتصب فيما يعرف بالمصلحة العامة والتي صارت غائبة مغيبة عن أجندة هذه الأحزاب، ولكنها غالبا ما تكون اختلافات حول السلطة والمناصب ومن هو الأحق بأن يكون الآمر الناهي داخل هذا الحزب أو ذاك. وسؤالي الأخير لماذا يستطيع المواطن السوداني العادي ذكر أكثر من عشرين اسما، وبسهولة، لمجموعات طوعية ومبادرات شبابية والتمكن من معرفة انشطتها وماذا أنجزت ويعجز عن ذكر أسماء عشرة أحزاب سودانية، على أكثر تقدير؟ بل ويعجز المواطن السوداني عن ذكر أي مساهمة مجتمعية أو تنموية أو اقتصادية حتى للأحزاب السودانية العريقة والتي تسندها قواعد جماهيرية واسعة وبعضا من الموارد المالية ورؤوس الأموال الفردية التي تمكنها من طرح مبادرات ولو صغيرة ولكنها يمكن أن تكون ذات فائدة مجتمعية، إن هي امتلكت رغبة الفعل والريادة؟ ولا ريب أن سهولة إنشاء أي حزب تغري الكثيرين أن يكونوا قادة لأحزاب ولو كانت هلامية الشكل خاوية المضمون، وهذا بالإشارة إلى قانون تسجيل الأحزاب والذي ينص على أنه (يجوز لأي عدد لا يقل عن مائة من المواطنين المؤهلين لحق الانتخابات تأسيس تنظيم أو حزب سياسي واحد وتقديم طلب بتسجيله وفق أحكام القانون). ولذلك ومنعا لمزيد من التفتت وتشتت الرؤي والجهود التي لا طائل منها لا بد من ضرورة مراجعة هذا القانون وإلزام إمكانية تسجيل أي حزب سياسي بشروط ومعايير محددة من ضمنها توفر القدرة المالية والموارد البشرية اللتان تمكنان مؤسسي الحزب من إنزال برامجه على أرض الواقع وتحقيق التحول الديمقراطي والتغيير المجتمعي المنشودان. وغني عن القول أن حالة الإحباط العامة تجاه هذه الأحزاب والتدني الكبير في درجة الاهتمام الشعبي بها يفوق وبكثير جدا الانخفاض الملحوظ في عدد عضوية هذه الأحزاب وعدم فاعليتها! وهذا دليل علة وليس عافية سياسية، فمن المعلوم أن هنالك مقومات أساسية يجب توفرها لأي حزب حتى يكون قويا ومؤثرا ومن أهمها التأييد الشعبي. حيث ساهم إغفال الممارسة الديمقراطية داخل هذه الأحزاب وإلى حد كبير في انتشار الفساد الإداري والمالي والجهوية والمحسوبية داخلها مما أدى إلى ضعف الالتفاف الشعبي حولها. هذا بالإضافة إلى العزلة التي تعيشها هذه الأحزاب وبعدها عن هموم المواطن، فالمفترض أن كل حزب سياسي أو تنظيم هو بمثابة منصة ذات توجهات فكرية وأيدولوجية معينة تهدف إلى تحقيق أهداف وبرامج محددة تستهدف المواطن وحقوقه ومعاشه واحتياجاته الحياتية المختلفة، ولكن المواطن السوداني لا يعرف شيئا عن هذه الأحزاب ولا عن برامجها الموجهة نحو المصلحة العامة، إن وجدت. وإذا كانت هنالك بعض الأصوات التي تنادي بحصر دور الأحزاب على المناحي السياسية، إلى أني أؤمن بأنه يجب على الأحزاب، النهوض بدورها فيما يختص بالمسؤولية الإجتماعية والتي في رأيي لا تنحصر فقط على القطاع الخاص والهيئات الإعتبارية، فالأحزاب لابد لها كذلك من أخذ قصب السبق في هذا الجانب لأن واحدا من أركانها المهمة يجب أن يكون الإسهام في عملية التنمية المجتمعية. فبينما نجحت الكثير من الجمعيات الطوعية والشبابية في تحسين حياة الكثير من المجتمعات وحفر الآبار لتوفير مياه الشرب النقية في قرى نائية واعمار المستشفيات والمراكز الصحية وتأهيل المدارس وحملات اصحاح البيئة وجمع النفايات، أخفقت كل الأحزاب تقريبا في المساهمة ولو بجزء يسير في الدفع بمسيرة التنمية في السودان وفشلت في بناء تنظيمات حزبية قادرة على المشاركة الفاعلة لمصلحة الوطن والمواطن. ولا يقتصر فشل هذه الأحزاب فقط على قعودها عن المساهمات آنفة الذكر بل يمتد ليشمل بعدها وغيابها الكامل عن المواطن السوداني في لحظات الشدة والأزمات والسيول والفيضانات وحتى في المناسبات الدينية ومواسم الأعياد حيث دأبت المجموعات الشبابية على استنفار جهودها لاستقطاب الدعم من داخل وخارج السودان للمساهمة في افطار الصائم وكسوة العيد مستهدفين الأسر محدودة الدخل واليتامى والأرامل. لذلك فبالضرورة بمكان وكما تطالب هذه الأحزاب الحكومة بضرورة التعددية السياسية والتي تعني بالنسبة للكثير منها اقتسام السلطة معها "والثروة" أيضا أن نطالب نحن أيضا هذه الأحزاب بالنزول إلى أرض الواقع والاحتكاك مع عامة الشعب، وليس قواعدها فقط، والاستماع إلى هموم المواطنين ومعرفة احتياجاتهم لتبنى عليها أهدافها وبرامجها. الامكانيات المادية الضئيلة الناتجة من التجفيف الحكومي المتعمد لموارد الأحزاب المالية لا يكفي لنجد لها العذر في عدم التصاقها بالجماهير وتقديم العون لهم. فالمبادرات الشبابية المختلفة والتي ولدت من رحم معاناة هذا الشعب أثبتت مقدرتها الهائلة على المشاركة المجتمعية الفعالة بالرغم من أنها تعمل في ظروف غاية في الصعوبة وتعتبر تجربة هذه المجموعات، وذلك لنشأتها الحديثة، هشة بالمقارنة مع الأحزاب العديدة فيما يختص بأساليب الهيكلة التنظيمية والإدارة المالية . ولكن من خلال وقت وجهد الكثير من الشباب المتطوعين والذين يعاني أكثرهم من البطالة وشظف العيش استطاعوا أن يثبتوا للمجتمع السوداني مقدراتهم الخلاقة على استقطاب الدعم العيني والمادي واستنفار الجهود الشعبية لمؤازرة قطاعات كبيرة من المجتمع السوداني والتي هي في أمس الحاجة إلى الدعم والمساندة بعد أن تقاعست الحكومة عن القيام بدورها تجاههم. مازلت أذكر جملة لن أنساها لأحد شباب مجموعة "شارع الحوادث"، المعنية بتقديم الدعم الصحي للمرضى والمحتاجين، وهو يتحدث في لقاء تليفزيوني عن أن أغلبهم خريجين جامعيين لم يوفقوا في ايجاد فرص عمل ويقضون نهارهم تحت شمس الظهيرة لجمع التبرعات التي قد تصل إلى آلاف الجنيهات وفي نهاية اليوم يلتفت كل منهم إلى الآخر ليسأله بضعة جنيهات تعينه على الحصول على تعرفة المواصلات العامة! حقيقة استوقفني كثيرا كل هذا التجرد والمصداقية ونكران الذات! ولا يقتصر فشل هذه الأحزاب على اخفاقها البائن في المساهمة في عملية التنمية المجتمعية فحسب بل هو قصور أيضا عن إحداث أي نوع من التغيير حتى على نطاق التنمية السياسية نفسها والتي تعني بتحسين النظام السياسي وأسس الحكم الرشيد . وذلك كان يمكن أن يتأتى من خلال زيادة مساحات التعبئة السياسية وإيقاظ الوعي المجتمعي للتحول من ثقافة الخضوع والسلبية إلى ثقافة المشاركة السياسية والمطالبة بالحقوق والحريات العامة. ويقيني أن عجز هذه الأحزاب عن تحقيق هذه الغاية والتي يفترض أنها من أهم أهدافها يرجع لانعدام المؤسسية وروح المشاركة داخل أروقتها ذاتها ولذلك مثلما تطالب الأحزاب الحكومة بتحسين أسس الحوكمة نحن أيضا نطالبها أن تبدأ بعمليات إصلاح داخلية عاجلة، لاسيما وأن أغلب هذه الأحزاب المنشقة جعلت من كلمة الاصلاح مسمى ولافتة لها.
لذلك أنا على ثقة تامة أنه في حالة أن أطلق حزب سياسي أو مجموعة شبابية نفير أو حملة لدعم شعبي بغرض مواجهة أزمة ما، سوف يكون الدعم موجها لصالح المجموعة الشبابية، لأنها قد كسبت الرهان وثقة الشعب وأثبتت مقدرتها على العطاء مما يمكنها من الاستمرارية وتطوير نفسها لمساهمات تنموية ومجتمعية قادمة. .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة