بقراءة حديثة لواقع الحراك السياسى السودانى فى المستقبل القريب (بعد زوَال أو تفكيك حُكم الإنقاذ الوشيك) من تلقاءِه أو بفعلِ فاعل عبر النشاطات الجارية، فى السرِ والعَلن، لتسوية الشأن السياسى السودانى بين أطرافه الخصوم السياسيين، حكومة السودان من جهة والحركات المسلحة التى كانت تعمل تحت لواء الجبهة الثورية السودانية قبل انهيارها، وحُلفاءهم من قوى "نداء السودان" من جهةٍ أخرى، عبر العملية التى تُعرف بـ "الهبوطِ الناعِم". عملية الهبوط الناعم هى صيغة سلام وشيكة لا فائز فيها ولا خاسر بشكل مُطلق، هى عملية خذ وهات تنتج عنها تسوية سلمية لضخ أسباب الحياة فى شرايين النظام الحاكِم. ولكن فى غمرة دفع الأطراف بأولويات مطالبهم المُلِحّة والجوهرية لتضمينها فى وثيقة سلام(الهبوط الناعم)هذه نكتب اليوم لنعبِّر عن قلقِنا وخشيتنا من ان تضيع حقوق ضحايا الحرب والإبادة الجماعية والتطهير العرقى فى دارفور وخصوصيات الأقليم الذى دمَّر الحرب أهله وموارده.. نخشى ضياع حقوق الضحايا وأهل الإقليم تحت أرجُل دهاقِنة وكهَنة ساسة المركز الذين تولّوا (كابينة) قيادة الطرف المعارض "قوى نداء السودان" المُكوَّن من شتاتِ الحركات المسلحة السودانية بعد كسرها لحائطِ الجبهة الثورية التى كانت تقِيها هجوم فيروسات أحزاب المركز فتفرّقت أيدى سبأ وفقدت مناعتها ومقاومتها، وتعطّل نشاطها فهمدت وتكلّست وصارت أثراً بعد عين. فى وآقِع فُقدان الظِل الماثل لدى الحركات المسلحة وخاصة الحركات التى قامت فى دارفور وخاضت الحرب هناك وخلّفَت وَآقِعاً إنسانياً سيئاً على المدنيين فى معسكراتِ النزوح واللجُوء.. ونتج الحرب عن فقدانِ أرتال من الشهداء لدرجةِ الإبادة الجماعية والتطهير العرقى وجرائم الحرب، فى وآقِع مُتَّسِم بالعدوان المُستمر على المدنيين فى إقليم دارفور على الهوية القبلية والعِرقية والمناطقية إستمرت لعقد ونيف من الزمان، وفى ظروف إنسانية غاية فى السوء تستخدِم فيها حكومة المركز الطعام وحليب الأطفال والكساء والغطاء سلاحاً فى الحرب ضد المدنيين فى تجمّعاتهم البائسة فى النزوح واللجوء. وفى ظلِّ فشلٍ تام لمخاطبة جذور الأزمة فى دارفور وحلِّها، وفى واقع تنازُل تدريجى ومُستمر لقادة الحركات المسلحة عن مكتسبات أهل دارفور التى تحققت خلال مراحل النضال السابقة مثل مكسب القرار رقم 1593/ 2005م الصادر من مجلس الأمن بالأمم المتحدة القاضى بإحالة الوضع فى دارفور منذ يوليو 2002م إلى المدعى لدى المحكمة الجنائية الدولية بلاهاى- هولندا. ومثل مكسب تعويض كافة الأضرار المادية والمعنوية لحرب دارفور الذى جاء قوياً وشاملاً وآضحاً فى اتفاق سلام دارفور(أبوجا) مايو 2006م، ذلك المكْسب الذى نزل سقفه إلى الحضيض فى وثيقة الدوحة 2011م. والآن نخشى أن تخلو صيغة عملية الهُبوطِ الناعم التى تُطبخ بهدوء فى مطابخ السياسة العالمية من أى نص بشأن تعويضات ضحايا دارفور عن الأضرار المادية والمعنوية لحربِ التطهير والإبادة الجماعية. والآن نطرح السؤال الذى يشكِّل عُقدَة وهدف هذه المادَّة، وهو: هل نزلت الحركات المسلحة بسقوفِ مطالبها وحقوق أهلِ دارفور إلى دَرْكِ عملية الهبوط الناعم التى لا تُخاطِب جذور أزمة الإقليم وإيجاد حلول لها، ولا تُؤمِّن حقوق ضحايا حرب دارفور وخصوصيات الإقليم ؟.. هل تنازل رؤساء الحركات المسلحة التى قاتلت فى دارفور بلا أدنى إلتزام أخلاقى لحماية المدنيين هناك فأدّى ذلك إلى إبادتِهم وهُتِكتِ أعراضهِم عندما إستخدمت حكومة الخرطوم إغتصاب النساء سلاحاً فى الحرب؟.. وإذا كان ذلك كذلك، فمن ذا الذى يأتى بحقوق ضحايا الحرب فى دارفور من الأنفسِ التى أزهِقت والثمرات التى أهلِكت؟ ومتى وكيف يُجبَر الضرر الكبير الذى وقع عليهم؟ ومن الذى يزعِن الحركات المسلحة على التنازل عن حقوق أهلهم ويختارون الهبوط الناعم مع حُلفاء المركز الذين لم يعانى أهلهم ويلات الحرب ولا الإبادة ولا التطهير العرقى ولا الإغتصاب؟.. لماذا يتبعون هؤلاء ولو قادُوهُم إلى جُحرِ ضَبٍّ أجْرَب؟ قبل ركوبهم طائرة الحل التى تعود بهم إلى الخرطوم بمَعِيَّةِ وضمان كهنة المركز على رحلة الهبوط الناعم، يجب على رؤساء الحركات المُسلحة التى قاتلت فى دارفور وخلّفَت ذلك الواقِع المرير، ثُمَّ إنسحبوا وفقدوا الاتصال والإجتماع والتفاعل مع الضحايا منذ زمن بعيد، يجب عليهم أن يخرجوا للضحايا ويشرحوا لهم ما يزمَعُون. هل تُؤمِّن عملية الهبوط الناعم المُزمعة حقوق أهل دارفور فى الحرِّية والهوية الحقيقية التى تحقق المواطنة المتساوية والعيش الكريم؟، وتحقق حُكم لامركزى يعيد هيكلة الدولة السودانية وتأسيسها من القاعدة إلى القِمَّة وليس العكس؟ وتضع أسُس ومعايير قِسط تُؤمِّن إقتساماً عادلاً للسلطة وتوزيعاً مُنصِفاً للثروة، وتعيد بناء المؤسسة العسكرية السودانية عبر ترتيبات أمنية عادِلة تعصِم من الإنقلابات العسكرية التى تُكرِّس الحُكم والسلطة لأهلِ المركز؟ ترتيبات تمنع قيام حروب إبادة وتطهير عرقى مرّةً أخرى فى الزمنِ القادم؟. وماذا تعنى أية تسوية سياسية إذا أعتوْرَها نقيصة قضم حقوق أهل دارفور، أو إنكار وتجاهُل أو إبتسار خصوصيات الإقليم المعروفة والمحفوظة لأهل الإقليم عن ظهر قلبِ؟ الخصوصيّات تشمل محاسبة الجُناة على ما إرتكبوا من فظائع ضد المدنيين فى دارفور.. وطرد السكان الجدد من حواكير القبائل، وعودة اللاجئين والنازحين إلى مناطقهم الأصلية بعد تحقيق الأمن والتنمية وتوفير وسائل الانتاج لهم قبل عودتهم.. ورتق نسيج المجتمع وإجراء المصالحات عبر حوار داخلى لأهلِ الإقليم.. والتعويض عن كافَّةِ الأضرار المادية والمعنوية بسبب الحرب.. وتأمين ورسم حدود الإقليم.. وإستفتاء سكان الإقليم على الوضع الإدارى الدائم الذى يحدد نظام الحُكم فيه وعلاقته بالسودان.. وحسم قضايا الأرض والحواكير بتشريعات خاصة.. إلخ).. إذا لم تتحقق هذه الأهداف والحقوق العادلة لأهل دارفور كاملة غير منقوصة لن يكون هناك سلام، لا بهبوط ناعم أو إضطرارى/ خشن. وللتذكير، نُريد من قادةِ الحركات المسلحة الذين يفاوضون ويقررون السلام فى دارفور، ويزمعون الهبوط الناعم أن يطمإنوا أهل دارفور وضحايا الحرب هناك فى معسكرات الذل والهوان، نازحين داخلياً ولاجئين، وأبناء بنات دارفور فى الشتات أنَّ حقوقَهم وخصوصيات الإقليم قد تَمَّ تأمينها فى عملية السلام القادم عبر هبوط ناعم أو خِشن. وحقوق ضحايا حرب دارفور وخصوصيات الإقليم معلومة للجميع ولكِنَّ الذِكرى تنفَعُ المؤمنين، وأنْ يعلمَ قادة الحركات المسلحة أن غياب أى حق من حقوقِ أهل دارفور أو أيّة خصوصية من خصوصيات الإقليم سيُبْطِل الوَكَالة التى يدَّعُونَها عن أهلِ دارفور!!. وانَّ أى صيغة تخلو من هذه الحقوق والخصوصيات شاملةً وكاملةً لن تكون بإسمهم، وعلى الحانثِ بيمين التكليف تدُور الداوئر.. والحقوق والخصوصيات باقية إلى أنْ تتحقّق وتُنتزَع نزْعَاً. وحقوق ومطالب أهل إقليم دارفور التى دفعوا مهْرَها إبادة وتطهير عِرقِى هى: • الحريات، خاصة وعامة: لا يقوم وطن على القهر والقمع والإكراه والتطويع والإدماج، فلا بُدَّ من إقرارِ انَّ شعوب السودان شعوب حُرَّة، وُلِدت حُرّة وتعيش حُرَّة وتموتُ حُرّة وتُبعثُ يوم القيامة حُرّة. ويُمتَنع على أى احدٍ فرداً أو جماعة التدخُّل فى الحُرِيّة الشخصية أو العامة للناس إلا بالقدر الضرورى لحماية الحريات الخاصة والعامة للآخرين.. وأنَّ سنّ أى تشريع للحدِّ من الحُرِّيةِ يجب أن يكون لمصلحةِ الحرِّيّة ذاتِها، ليس إلّا. • المواطنة المتساوية: لأنَّ المواطنةَ فى السودان مُتدرِّجة لعُدّة درجات، وهناك من يعتبرون أنفسهم نُبلاء ودرجة أولى، والآخرون درجات دُنيا وهذا خطأ كبير قاد إلى حروبِ إبادة وتطهير عرقى فى هوامش السودان وانفصل بسببها الجنوب. فيجب إقرار أنَّ كُلَّ السودانيون متساوون فى المواطنة وأن تُسَنَّ كافة التشريعات على ذلك مع محاربة وتجريم الثقافات والعادات التى تُكَرِّس وتشجِّع المواطنة المُتدَرِّجَة. • الهوية: لقيام سودان قابل للحياة، يسوده العدل والإستقرار والأمن والتنمية، يجب أن يتم الاتفاق بين جميع الأطراف على تعريف الهوية السودانية!. وأن يُقدّمَ النص النهائى لتعريفِ الهُوِيَّة السودانية لإستفتاءٍ شعبى عام لشعوب السودان كافّة لإقراره، ثم تضمينه فى عقدٍ إجتماعى شامل، ثُمَّ التنصيص عليه فى دستورٍ وطنىٍّ دائِم. • العنصرية والتمييز العِرقى: لقيام دولة مُحترمة ومُستقرَّة وديمقراطية فى السودان لا بُدَّ من إجراءِ إصلاحات ثقافية جوهرية فى شكلِ"جراحاتٍ تجميلية" مُهِمَّة فى وُجدَانِ وثقافة أهل المركز السودانى تستأصِل منهم أورَامِ العنصرية الخبيثة، والكراهية والظُلم، والتمييز العرقى والقبليِّة، و وَضعِ حدٍ لشعورِ أهل المركز بأنَّهم الأصل وغيرهم تابع يسكن أرض السودان بالإيجار!!. • العدالة فى إقتسام السلطة وتوزيع الثروة: يجب وضِع حد لإحتكار أهل المركز لحُكمِ السودان منذ الأزل.. لا بُدَّ من توزيع عادل للسلطة وإقتسام مُنصِف للثروة. ولا بُدَّ لأهلِ المركز الكفّ عن الظلم والتآمر على الهامش. • تنظيم وآضح لعلاقة الدين بالدولة: إن ذرَّوة سِنام الحرية الشخصية أن يختار الإنسان معتقداته الثقافية والدينية وانتماءاته الأخرى بحُرِّية ومسؤولية شخصية تامة. وانَّ وآجب المجتمع والدولة هو حماية تلك الحرية بكافّةِ الوسائل، وعليه لا يُستسَاغ أبدَاً إدخال الدين فى شئونِ الدولة، لأنَّ الدين أمر خاص بالفرد وعلاقته بربه تتمُ به مكارم الأخلاق، بينما الدولة ومؤسساتها وأجهزتها ملِكُ للجميع. والدولة شىء مصنوع وغير مطلوب منها أن تتديَّن أو تعبُدَ الله، الدولة لا دين لها.. وعليه يجب فصل مؤسسات الأديان ورُؤَاها ومؤسساتها عن الدولة ومؤسساتها وسياساتها وعلاقاتها ومصالحها. فالدين شان خاص بالفرد والجماعة والدولة مِلك عام للشعب، ولا يجْمُل ربطه بدين أو مُعتَقَد حتى لا تُستغل الأديان وقُدسِيَّتها وأحكامها فى العمل السياسى فيختل أمن المجتمع وينفرط عقده كما حدث فى عهد النظام الحاكم الذى تطاول عهده فأحالَ نهار السودان إلى ليلٍ حَالِك. • نظام حُكم لا مركزى عادل تتنزَّلُ فيه السُلطات والموارد: يجب أن يتبنّى السودانيون نظام حُكم لا مركزى عادل يتم فيه مشاركة جميع السكان بمختلف أقاليمهم فى السُلطة العامة وجهاز الدولة، وأن يتم توزيع عادل للثروة. حُكم لا مركزى تتنزّل فيه السلطات والموارد لكُلِّ المستويات.. • وضع وإقرار معايير عادلة لإقتسام السلطة ومُنصِفة لتوزيع الثروة: وأن لا تقتصر على معيار نسبة سكان كل أقليم من مجموع سكان السودان، ومعيار التمييز الإيجابى للأقاليم التى حُرِمت من السلطة والثروة وإدارة جهاز الدولة منذ خروج المستعمر الأجنبى وحلّ محله أهل المركز. وأهل المركز ينطبق عليهم ما قالوه بألسِنتهم (التُركِى ولا المُتتورِك). • العدالة والمصالحة: لتقوم دولة قابلة للحياة يجب أن يقومَ العدل بالقسطِ فى جميعِ المظالم التى وقعت أثناء النزاعات المسلحة منذ 1999م، ويلزم ذلك أنْ يُقدَّمَ جميع الجُنَاة الذين ارتكَبُوا الانتهاكات والجرائم ونكَّلُوا بالمدنيين الأبرياء فى هوامش السودان إلى العدالة الجنائية الدولية فى لاهاى/ هولندا، بموجب القرار الصادر من مجلس الأمن بالأمم المتحدة رقم 1593/2005م. وأن يتم تحرير القضاء السودانى وإسترداد إستقلاله التام من قيود السلطة التنفيذية الحاكمة ليمارسَ ولايته كاملة لتحقيق العدل بالقسطِ، لا يتفلَّت منه جانِى.. لن يقوم السودان وينهض بسواعد جميع بنِيّه ما لم يُجْبَرَ الضرر الكبير الذى وقع على الأبرياء العُزّل من ضحايا حروبِ التطهير العرقى والإبادة الجماعية، لا ضررَ ولا ضِرَار. والعدالة حِرزُها القضاءُ المُستقِل، والقضاء حِصنهُ المنِيع حُكم القانون وسيادته بحيث يسود ويعلُو على الجميعِ. ومُقتَضَى ذلك تأمين جهاز قضائى مُستَقِل عن سيطرة وتدخل السلطة التنفيذية والتشريعية. وكان ذلك مُتَحَقَّقاً فى السودان حتى عشِيَّة وُقوع وآقِعة انقلاب 30 يونيو 1989م. فيجب أن يضعَ الجميع نصب أعيُنهم إصلاح الجهاز القضائى والعدلى فى السودان بما يُعيده لحالِهِ قبل إنقلاب (الإنقاذ). ولا خطرَ على استقلالِ القضاء السودانى حامى حِمَى الدستور والحقوق وأجهزة الدولة وفصل سلطاتها غير الأحزاب العقائدية. ودليل ذلك تآمُر حزب الأمة مع حزب الأخوان المسلمين لإزدراءِ حُكمِ المحكمة الدستورية الذى أبطل قرار البرلمان بحَلِّ الحزب الشيوعى السودانى وطرد نوابه من البرلمان سنة 1965م.. والديمقراطية يحمِيها القضاء العادل المُستقِل، والخطر الماحِق والعدو اللدود للديمقراطية هُم الأحزاب العقائدية الشمولية التى لا تؤمن بالديمقراطية ولكنَّها تلتفُ عليها وتتحايَل على قِيمِها وهى كافِرةٌ بها.. وهذه الأحزاب العقائدية هى الخطر الأوحد على حياةِ ومستقبلِ السودان وشعبِه. • الانقلابات العسكرية: جُبِلَ احزاب المركز على تحريض عناصرها فى القوات المسلحة (الجيش بالذات) للإنقلاب على الأنظمة المُنتخبة ديمقراطياً، وقد حدثَ ذلك ثلاث مرَّات ولن تكون الأخيرة طالما أن الأحزاب التقليدية والعقائدية هى صاحبة القاعدة الجماهيرية والعسكرية معاً. ولأنَّ الشعب السودانى مجبُول على شتمِ العسكر كلما انقلبوا على نظامٍ مُنتخب ديمقراطياً.. فيجب إلقاء الضوء على حقيقة انَّ من يُحرِّكَ العسكر للإنقلاب على الأنظمة المُنتخبة ديموقراطياً فى السودان هم قادة الأحزاب السياسية العقائدية. هذه هى الحقيقة على الأقل فى الانقلابات العسكرية (الثلاثة) التى وقعت حتى الآن. ففى انقلاب 17 نوفمبر 1958م قام رئيس الوزراء السيد/ عبد الله بك خليل بتسليم الحُكم للعسكر بقيادة الفريق/ إبراهيم عبود.. فعل ذلك لأسبابٍ رَجَّحَت لديه أنَّ مصلحةَ البلاد تقتضى ذلك. ويعتبر حُكم الفريق عبود أحسن الأنظمة العسكرية التى مرّت على السودان. ثُمَّ وقع انقلاب 25 مايو 1969م الذى قاده العقيد/ جعفر محمد نميرى بالتضامُنِ والإشتراك مع الحزبِ الشيوعى السودانى (حزب سياسى عقائدى).. وكان مُبرِّره ودافعه لذلك هو شعوره بالظلم الذى حاق بالحزب بسبب حادثة حلِّه ظُلماً وطرد نوابه من البرلمان فى 16 ديسمبر 1965م، و رُغم صدور حكم قضائى من المحكمة العليا الدستورية بإلغاء قرار البرلمان بالحل وطرد النوّاب لكن أصَرَّ زعماء أحزاب الأمَّة والأخوان المسلمين على مُخالفة وإزدراءِ حُكم المحكمة العليا وعدم الإنصياع له، فأعلن الصادق المهدي رئيس حزب الأمة أن حُكمَ المحكمة العليا "حُكمٌ تقريرى"، ونسف بذلك أساس الديموقراطية اللبرالية التى يقف اليوم مُدافِعاً جسوراً عنها. ذلك الموقف من مبدأ إستقلال القضاء وسيادة حُكم القانون دفع برئيس القضاء مولانا/ بابكر عوض الله إلى تقديم إستقالته لرئيس وأعضاء مجلس السيادة، إختتمها بقوله: (إننى عملت ما فى وُسعِى وسعيتُ لصيانة إستقلالِ القضاء منذ أن كان لى شرف تضمين ذلك المبدأ فى ميثاقِ أكتوبر، ولا أريدُ لنفسى أن أبقى على رأسِ الجهاز القضائى لأشهد عملية تصفيته وتقطيع أوصاله وكتابة الفصل المُحزن والأخير من فصولِ تأريخه). أمّا دكتور حسن الترابى مُوقِظ هذه الفِتنة التى أقعدت بالسودان طويلاً فقد اصدر كتاباً فى يناير 1966م أى بعد شهر وآحِد من قرار المحكمة العليا بعنوان:(أضواء على المشكلة الدستورية)"بحث قانونى مبسَّط حول مشروعية حل الحزب الشيوعى"وتولّت مطبعة الخرطوم طباعته. والفكرة الأساسية فى الكتاب هى:(أنَّ الجمعية التأسيسية هى الجهة المُنَاط بها ممارسة السلطة الدستورية وهى مظهر السيادة التى تثبتها الدساتير للأمَّة من بعدِ الله. وبما أن السلطة التأسيسية هى التى تمتلك السيادة المُطلقة فإنَّ فصلَ السُلطات إلى تشريعية وتنفيذيِّة وقضائية تأتى فى المرتبة الثانية بالنسبة للسلطة التأسيسية، تأتى فى مقامِ الفرع من الأصل.) ملحوظة:المرجع هو كتاب(معَالِم فى تأريخ الحزب الشيوعى السودانى) لدكتور القدَّال، الناشر دار الفارَابى بيروت الصفحات (147-158). (ويثير كتاب الترابى العديد من الأسئلة: إذا كانت المحكمة العليا ليس لها حق النظر فى قرارات الجمعية التأسيسية فلماذا عُرض عليها الأمر من البداية ؟. ومن الذى يحكُم البلاد هل هو دستور السودان المؤقت لسنة 1964 الذى ينص على إستقلال القضاء ويعطيه الحق فى تفسير ما ينشُب من خلاف حول تفسير بعض نصوصه؟ أم الجمعية التأسيسية التى يمنحها الدستور سلطات محدودة وليست أحكامها كما يقول الترابي تعلُو ولا يُعلَى عليها. وهل لأن الجمعية التأسيسية مُكلفة بوضع دستور البلاد تصبح فوق الدستور الذى يحكم البلاد؟ يبدو أن الترابي لم يفرق بين الإجابة علي أسئلة أمتحان ببراعة الطالب النبيه وتناول قضايا تخص مستقبل أمَّة(. "نفس المصدر- المُؤلِّف". وأدرك الأستاذ محمود محمد طه ما فى كتابِ الترابى من إضطراب فألَّف كتابآ فى الرد عليه بعنوان "زعيم جبهة الميثاق الإسلامية فى ميزانِ: 1) الثقافة الغربية- 2) الإسلام، أضواء على المشكلة الدستورية". قال فيه الأستاذ/ محمود محمد طه: (أن الكتاب من حيث هو فلا قيمة له ولا خطر، لأنه مُتهَافِت، ولأنه سطحى، ولأنه ينضَح بالغرض ويتسم بقِلّة الذكاءِ الفِطرى). ومُؤخراً تحدَّث السيد/ الصادق المهدى حول ذات الموضوع إلى مجلَّة طلاب جامعة الخرطوم فى العام 1985 فقال: (ما حدث كان إنفعال.. إن الذي حدث فى موضوع حَلِّ الحزب الشيوعى كان موقفاً سياسياً غير محسوب نتج عن موقف إنفعالى!!. ولكن يجب أن أقولها، أنه يجب الإستفادة من تجارب الماضى الأولى.. إن حديث الطالب فى معهدِ المُعلِّمين فجَّر المشاعر.. وإن مثل الذى حدث قد يتكرر). ستظل هذه المؤامرة فى ذاكرة الأجيال يتناقلونَها جيلاً بعد جيل، ويلعنُونَ الحظ العاثر الذى وضع الزعيمان السيد الصادق المهدى ونسيبه دكتور حسن الترابى فى موقع المسؤولية عن مصير الحُكم والإدارة فى السودان لينحروا الديمقراطية وسيادة حُكم القانون والتعددية السياسية فى السودان فى مَهْدِهَا وإلى الأبد. فهُمَا يستحِقَّان الحساب والعِقاب الرَّادِع على إقترافِهما تلك المؤامرة الدنيئة، ولا يجوز الإكتفاء بمُجرَّدِ الإعتذار. ولكن الحزب الشيوعى لم يتمكن من السيطرةِ على العسكر الذين أتى بهم إلى سُدَّة الحُكم، يضاف إلى ذلك فشل انقلاب الرائد هاشم العطا (التصحيحى) والمآسى التى ترتبت عليه فإنفرد الرئيس جعفر نميرى بالحُكم عبر "تحالف قوى الشعب العاملة" حتى تمَّ خلعَهُ بثورة شعبية عارِمة فى مارس أبريل 1985م. ونظام نميرى كان أسوأ من نظام عبود بكثير، وأطول عمراً بعقدٍ كامل من الزمان. ثم جاءت كارثة انقلاب(الكيزان) فى 30 يونيو 1989م وهو الأسوأ ليس على مستوى السودان فحسب بل على مستوى الدنيا كلها، نفذها تنظيم الجبهة الإسلامية ومارس بموجبه أسوأ تجربة حُكم فى سِفر تاريخ البشرية أجمع، وإتَّسَمَ بكُلِّ السوء الذى وُجِدَ فى الدنيا. والمشكلة أن هذا الانقلاب الذى سماه الكيزان بـ(الإنقاذ) قد تطاول أمدهُ لِمَا يُقَارِب الثلاثة عقود من الدمارِ والفساد المُستمر فى كل مناحِى الحياة. بدأ التدمير وانتهى فى الإنسان السودانى الذى جعلوه ينافس بكفاءَةٍ عالية على نعتِ أرذل مواطن دولة ذات سيادة. • الشفافية والمحاسبة: لا بُدَّ لأىِّ تنظيم سياسى يريد تقديم نفسه وفِكره وبرامجه لجماهير الشعب السودانى فى مقبل الأيام، ان يدرِّب كادره على إخضاع ما يقوم به من تكاليف للمراجعة ثم المحاسبة على القصور أو التجاوز. يجب أن تدرِّب الأحزاب السياسية كادرها على الشفافية والمراجعة والمحاسبة فإذا انعدمت المحاسبة وساد الفساد فى البَرِّ والبحر تسُودُ دولة الظلم وأحزاب العقائد الفاسدة، ويزول حكم القانون وفصل السلطات واستقلال القضاء، ويأفُل العدل. إذا انعدمت المحاسبة فلينتظر الشعب مَرَّةً أخرى أنظمة الكهنوت والدجل الدينى/ السياسى، سيأتى مرَّة أخرى المَلالِى والذقون الكثّيفة. ينتظر الشعب عودة الهوية الزائفة المتخَيَّلة ودولة الفساد والمحسوبية والإبادة الجماعية والتطهير العِرقِى وإغتصاب الحرائر مرَّة أخرى، يعودُ دولة العنصرية والقبيلة والظلم، والظُلم ظلماتٌ يوم القيامة. فأين رؤساء وقادة حركاتنا المسلحة التى نشأت فى أقليم دارفور وقاتلت هناك فخلّفت دماراً رهيباً و وَضعاً إنسانياً وأمنياً وإجتماعياً حَرِجَاً للغاية؟ تركوا المدنيين بلا حماية أو عائل، نهْبَاً لغلواءِ الجنجويد ونزغ وحِقد جهَلَة الدعم السريع يقتلونهم ويغتصبون العِرضَ والأرض وينهبون المال قَلَّ أو كثُر، ويقتلون الإنسان لمُجرد أخذِ هاتِفه النَقّال!. والمُقْلِق إنَّ التسريبات التى رشحت من إجتماعاتِ المفوض الأمريكى الخاص بالسودان السفير دونالد بوث بالأطراف السودانية فى كُلٍّ من أديس أبابا والخرطوم وقد باحَ لبعضِ النُشطاء السودانيين المُقرَّبِين من مراكز اتخاذ القرار الأمريكى بملاحظاته المُهمّة جدّاً والمُقلِقة للغاية. وتتلخص فى أنَّ رؤساء الحركات المسلحة السودانية التى تحمل قضية اهل دارفور وضحايا الحرب هناك، أنّهُم فى إجتماعاتِ قوى نداء السودان لا يتحدّثون عن قضايا اهلهم ضحايا حرب التطهير العِرقِى فى دارفور. لا يتحدَّثون عن ضرورة حماية و وقف العدوان على المدنيين وتأمين إيصال الإغاثة المنقذة للحياة لهم فى أماكن تجمعاتهم المُذلّة والمُهينة للكرامة الإنسانية.. ولا يتحدّثونَ عن الظرفِ الإنسانى الحَرِج فى إقليمِ دارفور وعن كيفية سد ثغرة ترك المدنيين هناك نهباً لحملاتِ الجنجويد والدعم السريع الإنتقامية بلا حماية، رغم أنّ وآجِب الحماية لا يسقط أبداً إستمرّ القتل على الهوية. وتحدَّث المبعوث الأمريكى بوث مع ناشطين سودانيين فى مجموعات ضغط أمريكية قريبة من مواقع اتخاذ القرار هناك وطلب منهم أن يسدُوا النُصحَ لرؤساءِ الحركات المسلحة بضرورة إثارة القضايا المُلحَّة التى تخص حقوق أهلهم فى هذه الإجتماعات ووضعها فى مقدمة الأجندة السياسية لأى تسوية قادمة مثل عملية "الهبوط الناعم" التى بزغ نجمُها ولاحَت بشائرها. أبدى المبعوث الأمريكى دونالد بوث قلقه البالغ من أنّ رؤساء الحركات المسلحة من دارفور لا يتحدثون عن خصوصيات إقليم دارفور، ولا يشعرون بأىِّ قلق تجاه المدنيين الذين تركُوهم بلا حماية Vulnerable ولا يتحدثون عن قضايا وحقوق ضحايا الحرب هناك ولا يطالبون بحقوقهم!!، ويتركون المجال لزعماءِ أحزاب المركز ليضيِّعُوا الوقتَ فى تفاصيل وقضايا إجرائية انصرافية وبعيدة عن جوهر ولُبِّ الأزمة السودانية المشتعلة فى دارفور وهوامش السودان الأخرى. وفى الخِتامِ، لا نملكُ غير أن نمارسَ اضعف الإيمان ونكافِحُ بالكلمة المكتوبة، ونظل نرى ونرقٌب عن كثب، ونكتب ملاحظاتنا فى تشجيع ونقد قادة الحركات المسلحة الذين يدَّعُون تمثيل أهل دارفور ونحثّهم أن يقومُوا بوآجِبِ التصدِّى والدفاع عن قضية دارفور وأهله والمطالبة بحقوقهم جميعها (على داير الملِّيم).. وإلّا فإنَّ عقدَ الوكالة الذى بينكم وبين أهل دارفور للدفاع عنهم والمطالبة بحقوقهم سوف يُنقَض ويُلغَى بسبب فشل الحركات المسلحة (الوكيل) فى النهوض بواجبات عقدِ (الوكالة) نيابة عن شعبِ دارفور ويُسَمَّى (الأصِيل). فالأمانة والأخلاق ودِمَاء الشهداء وضحايا الإبادة والتطهير العِرقى فى دارفور تُحتِّم على رؤساءِ الحركات المسلحة الصدق مع النفس والضمير، فأمّا إعلان المقدرة على المُضى قُدما حتى نزع الحقوق للضحايا، أو رد أمانة الوكالة والتنحى والترجُّل وإفساح المجال لضحايا الحرب والإبادة الجماعية والتطهير العِرقى لكى يقوموا أصالة عن أنفسهم بالدفاع عن حقوقهم والتصدى لها، وما ضاعَ حقٌّ ورَاءَهُ مُطَالِب. أمَّا السُكُوت والنكوص عنِ الدفاع عن حقوقِ ضحايا حرب دارفور وتركهم بلا حماية لجَلَّادِهم يقتاتُ على أرواحهم كل يوم فى غيابِ الحركات التى أجَّجتِ الصراع هناك وسكُوت قادتها وإمتِنَاعهم عن الدفاع عن حقوق أهلهم إلى الدرجة التى أحرجَت المبعوث الأمريكى الذى باح بمخاوفه تلك لبعضِ من يهُمَّهُم الأمر!!.. فلا بُدَّ لقلقِ المبعوث الأمريكى هذا أن يُوضعَ موضِع الجِد، وأن يتحدَّثَ ضحايا الحرب فى دارفور جهاراً نهاراً لوُكلاءِهم رؤساء الحركات المسلحة للدفاعِ عن حقوقهم بقوة، أو أن يردُّوا أمانة التكليف والتوكيل لأهلِها، و (ورُّوُهم العَدُو وأقِيفُوا فرَّاجَة). هكذا جاء بوحُ المبعوث الأمريكى الخاص للسودان ليؤكِّدَ لنا ما كُنّا نعلمُه، وهو أنَّ رؤساء وقادة هذه الحركات المسلحة قد وَهَنَ عظمَهم وعزمَهم وخارت قًوَّاهُم، وصاروا كمَنْسَاة سيدنا الملك سليمان فى إنتظارِ دآبة الأرض لكى تأكُلُها فتَهوِى وتنهار، وتصبح أثراً بعد عين. وبناءً على ما تقدَّم أعتقدُ أنَّ الحركات المسلحة التى أجَّجت الصراع فى دارفور أوَّل الأمر، قد نزلت بمطالبِ أهل دارفور وخصوصياتِ الإقليم إلى الصفر، وقبلت من الغنيمةِ بالإيابِ عبر عملية الهُبُوطِ الناعِم. واللهُ أعْلَم.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة