نشر الجمهوريون أسطورة جميلة انخدع بها البعض وموَّهت حقيقتهم على الكثيرين. وهي الأسطورة التي تقول إنهم قوم ذوو أريحية وسماحة وفضل على الناس. وإنهم من أنصار حرية الفكر الذين يستميتون في سبيلها. وقد نشروا لإقناع الناس بتلك الأسطورة المضلِّلة شعارهم المضلِّل (الحرية لنا ولسوانا)! وهو ما يشبه عبارة كانت مجلة (الطليعة) الماركسية المصرية تضعها شعارا على صفحة غلافها الأولى. وهي العبارة المنسوبة إلى فولتير، ولا يصح عزوها إليه، إذ لم ترد في أي من كتبه. ونص العبارة (الشعاراتية) يقول:" قد اختلف معك في الرأي، ولكنني على استعداد أن أموت دفاعا عن رأيك." ومع اطلاعي على معظم أعداد مجلة (الطليعة) المصرية فلم أرها يوما واحدا نشرت رأيا يخالف منظورها الماركسي التقليدي أو ينتقده! ولولا حبهم التدليس لكان على شيوعيي مجلة (الطليعة)، وعلى رأسهم لطفي الخولي، أن يقولوا للناس:" قد نختلف معكم في الرأي، وعندها سنكون على أتم استعداد لكي نوردكم موارد الردى"! وكذا كان خليقا بالرهط الجمهوري السوداني - لولا حبه التزوير والتزويق - أن يقول:" الحرية لنا وحدنا وليست لسوانا من الناس"! وخلافا لتشدقهم بالحرية ودعوتهم لبسطها على الجميع فقد كان الجموريون من أشرس أعداء الحرية، ومن أشد أنصار الدكتاتورية المايوية حماسة لها. وقد حرضوا حكومة مايو علنا لضرب خصومها وخصومهم بيدها الحديدية الباطشة. وبدوا أشد حرصا على سحق المعارضة السياسية من الحكومة المايوية نفسها. فقد حرضوها على الهادي المهدي والصادق المهدي وعلى حزب الأمة والأنصار تحريضا شانئا شائنا شائها. كان ذلك عند ضرب الجزيرة أبا وربَك وودنوياوي في أول عقد السبعينيات من القرن الماضي. وبعيد منتصف ذلك العقد اشتدوا في التحريض عندما ساورهم الخوف من أن يتحقق عقد المصالحة التي أبرمها الصادق مع نميري في 7/ 7/ 1977م. فأصدروا عدة كتب بغرض تأجيج نار العداوة مجددا بين الأنصار وحكومة مايو، وكأن ما مضى من بطش مايو بالأنصار لم يك كافيا. ومن سلسلة الكتب التي أصدروها في التحريض على ضرب الأنصار كتاب (هذا هو الصادق المهدي). وكتاب (الطائفية وحوادث الجمعة وعار الأبد). وكتاب (الطائفية تتآمر على الشعب). ولم يوفر الجمهوريون الحزب الاتحادي رغم سلميته من النقد الاتهامي التحريضي العنيف. فأصدروا في نقده كتاب (المؤامرة). واتهموه بما لم تتهمه به أجهزة الأمن المايوي. وأحاطوا النظام بمعلومات كاذبة تزعم أن الاتحاديين والختمية يتآمرون سرا لقلب نظام الحكم! وحرضوا حكومة النميري على منظمات الدعاة السلفيين حيث أصدروا ضدهم كتاب (أبو زيد الوهابي). ودعوا السلطة المايوية لإلغاء دائرة القضاء الشرعي، التي تحكم في أخصِّ قضايا الناس الشخصية؛ في عقود الزواج، والطلاق، والخُلع، والوصايا، والتركات. وذلك لأن هذه الدائرة القضائية الشرعية قضت عليهم قديما بحكم الردة. فأصدروا ضدها كتابا ذا عنوان تحريضي مثير هو (صفُّوا دائرة الأحوال الشخصية). وحرضوا حكومة مايو على وزارة الشؤون الدينية في كتابهم المسيئ (بيننا وبين الشؤون الدينية وأساتذتها من أزهريين وسعوديين). وذلك لأن أحد علماء الوزارة انتقد العقائد الجمهورية نقدا علميا رصينا، وهو سماحة الشيخ أحمد البيلي، حفظه الله. فتحدوه من غير موجب، ولا مبرر، ولا مناسبة، كي يعلن رأيه في عقيدة مايو الاشتراكية إحراجا له وإيقاعا به. وقد ابتذلوا هذا التحدي بقولهم:" ما رأي السيد مدير مصلحة الدراسات الدينية فيما دعونا إليه من تطوير المال، وذلك بالانتقال من النص الفرعي إلى النص الأصل، من الزكاة ذات المقادير إلى زكاة البنى ، وقد أظلنا عهد الإشتراكية؟! هذا ما نريد السيد مدير مصلحة الدراسات الدينية أن يبينه في غير مواربة". (الإخوان الجمهوريون، الميزان، الخرطوم، ص 48). وفي هذا النص يبدو أن الجمهوريين كانوا يطابقون بين فكرهم وفكر حكومة مايو في شأن الاعتقاد في الاشتراكية. وقد أرادوا أن يضطروا الشيخ البيلي إلى أحد أمرين؛ إما أن يوافقهم على ضلالهم المبين، وإما أن يفصل من عمله الحكومي بدعوى مناهضته للفكر الحكومي! ولم يقف إرهاب الجمهوريين وتحريضهم على مستوى علماء الوزراة، بل تعداه إلى رأسها، وهو الوزير عون الشريف قاسم. وقد كشف الوزير عما تعرض له من إرهابهم فقال: " أنا شخصيا لا أميل إلى مصادرة الفكر مهما بلغ اختلافي معه، ولكني في نفس الوقت أرفض أساليب الضغط التي يسلكها تلاميذ الأستاذ محمود محمد طه، والتي وصلت أحيانا إلى درجة التهديد والتلويح بأن بعض السلطات العليا في الدولة معهم، إن هذا أيضا مصادرة لحرية المخالفين لهم في الرأي ". (عون الشريف قاسم، الإسلام: رسالة خاتمة لا رسالتان، وزارة الشؤون الدينية، الخرطوم ، ص 73 - 74). وما ذكره الوزير المايوي صحيح. ويؤيده القول اللاحق لمدير مكتب نميري، الأستاذ عبد المطلب بابكر، الذي ذكر لصحيفة (الوطن) أن دكتاتورية مايو نعمت بتأييد الحزب الجمهوري لها منذ أول أيامها. وأنها كافأتهم بأن هيأت لهم المنابر وحدهم وصدت عنها الآخرين. (الوطن بتاريخ 1 يونيو 2014م) وقد نعِم الجمهوريون كذلك بإبداء النميري لإعجابه بفكر زعيمهم. وحديثا أفاد الصحفي والمفكر السياسي المصري الشهير محمد جلال كشك أن نميري أهداه نسخته الشخصية من كتاب (الرسالة الثانية من الإسلام). وذكر أن نميري وضع عليها بخط يده تعليقات إيجابية كثيرة تعبر عن إعجابه بما ورد فيها من آراء. وقال كشك:" عندي نسخة أعطاها لي الرئيس نميري بعد أن قرأها، وقد أشَّر في كل صفحة من صفحاتها بعلامة صح. وفي صفحة 32 كتب بخط يده: صح 100 على 100". وأضاف كشك:" عندما أعطاني هذه النسخة كان واضحا أنه لا يريد اتخاذ أي إجراء ضد الرجل ". (محمد جلال كشك جهالات عصر التنوير، مكتبة التراث، القاهرة،1410هـ، ص8). وبالإضافة إلى القوى الطائفية والسلفية والرسمية فقد حرض الجمهوريون النظام المايوي لسحق ما سمي بالقوى الحديثة أيضا. فأصدروا في التحريض على النقابات العمالية والمهنية التي تحدت سلطة مايو، وأعلنت في مواجهتها بعض الاضرابات في أوائل حقبة الثمانينيات، كتابهم الموسوم (المنشور السادس: بيانات نقابة المحامين وجمعية القانون). وألحقوا به كتاب (هذا لا يكون!! مايتعلق بأمن البلاد أتقرره النقابات؟! هذا لا يكون أبدا). وامتد تحريض الجمهوريين لحكومة مايو على معارضيها ليشمل قطاع الطلاب. ومثالا لذلك فقد دعا المدعو أحمد مصطفى دالي سلطة مايو علنا لاستخدام الحل الأمني ضد طلاب جامعة الخرطوم. وهي الجامعة التي ينتمي إليها وظل يبشر بدعوته كل ضحى في أرجائها. وقد نشر بهذا المعنى مقالا بصحيفة (الصحافة) بتاريخ 23 سبتمبر 1980م حرض فيه السلطة المايوية على انتهاك استقلال الجامعة وتمكين أجهزة الأمن في ساحاتها. وعندما رد عليه أستاذ جامعي حصيف هو الدكتور صديق أمبدة بمقال أرسله إلى الصحيفة الحكومية ذاتها رفضت نشره. وقد قام البروفيسور أمبدة بنشر مقاله متأخرا جدا، بعد أكثر من ثلث قرن، عن طريق الوسائط الاعلامية الالكترونية الحديثة. وبينما سعى البروفيسور أمبدة في مقاله ليؤكد:" أن الاتجاه الصحيح نحو الحل الامثل، لا يكمن في المزيد من القوانين، وإنما بمراجعة القوانين الحالية، وتوسيع قاعدة المشاركة في اختيار إدارة الجامعة، وبذلك وحده يتوفر المناخ الأنسب أولا لمناقشة، ثم معالجة قضايا الجامعة". فقد تركز جوهر مقال دالي كما شرحه أمبدة - مقتطفا من قول دالي - في مطالبته بأن:" تصدر إدارة الجامعة قوانين محددة تحدد وفقها تنظيم نشاط الطلاب الفكري والثقافي". وفي:" دعوته إلى حفظ النظام داخل الجامعة بواسطة قوات الأمن... لأن قوات الأمن، اذا قصَّرت عن دورها في ترسيخ سيادة القانون فإن كل مجموعة من الطلاب ستجد نفسها مضطرة لحماية نفسها". وهكذا امتد نطاق التحريض الجمهوري ليشمل الطلاب، بعد أن شمل العلماء، والعمال، والمهنيين، والسياسيين. وبعد ذلك كله لا يزال الجمهوريون يلهجون ويلغطون ويدعون لأنفسهم شرف الدفاع عن الحريات. وهم عن ذلك الشرف عاطلون!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة