غريب أمر الناس الذين يستنكرون سؤال ما هو البديل إذا سقط نظام الإنقاذ العسكرى المستبد الحاكم فى السودان. من هم هؤلاء الدعاة أو أكثر دقة : من هم الذين يقفون وراءهم ودفعهم لترويج التشكيك فى نوايا السائلين عن البديل والهدف الذى تتطلع له الهبة الشعبية التى تنتظم البلاد حالياً!
الذين يقللون من سؤال البديل ينظرون الى موضوع البديل والتغيير عموماً إنطلاقاً من خواطر مبنية على التصورات الشخصية والأفكار العابرة التى تفرغه من أى محتوى إجتماعى. البديل عند هؤلاء قضية فى غاية البساطة: مجلس قيادى حاكم لشباب الإعتصام يشترك فيه عدد من ممثلين للأحزاب والجبهة الثورية والقوات المسلحة. هذا عبث لا تغيب صبيانيته عن فطنة الذين يعتبرون ان الموقف الصحيح هو الذى يعتبر أن البديل والتغيير عموماً يحدده التطور الاجتماعى والاقتصادى للمجتمع وميزان القوى الطبقية فيه، أى أن طبيعته مرهونة بشروط تاريخية محددة. وهناك من يستحضر إنتفاضة أكتوبر ويربطها بعصيان 27 نوفمبر 2016 ولكن بشكل يكشف عن أنهم "لم يتعلموا شيئاً ولم ينسوا شيئاً". إن الهبات والانتفاضات الشعبية تفرض على الجماهير السودانية التعلم من دروس اكتوبرالسلبية التى ادت لإجهاضها وأهما النتائج السلبية للعفوية فى العمل السياسى. وعلى ذكر اكتوبر تجدر الإشارة الى أن العامل الحاسم فى تنحى الحكومة العسكرية كان المواجهات الدامية بين عشرات الآلاف من أبناء الشعب وقوات النظام فى شوارع المدن، وقد كان العصيان المدنى آنذاك تتوجيا لنضال الشعب.
وفى ضوء معطيات الواقع الحالى لا مناص من التركيز على مطالب محددة تتعلق بقضايا اكثر إلحاحاً مثل دعم السلع الضرورية وإستقلالية العمل النقابى، فالظروف الذاتية لم تنضج لبزوغ السلطة السياسية التى تحقق كل ما ظل مواطنونا يصبون لتحقيقه من ديمقراطية سياسية مكتملة تكفل كفاية وعدالة تمثيل الطبقات الشعبية والتحرر من قيود علاقات الإنتاج البالية وتحرير الإقتصاد من براثن التبعية والقروض المجحفة والمنح والإنعتاق من إملاءات الدول الدائنة والمانحة وصندوق النقد والبنك الدوليين، فإن التغيير الديمقراطى الشامل لم تنضج الظروف الذاتية لتحقيقه. وهكذا إذا سقط نظام الإنقاذ اليوم فإن بديله يتناسل ويخرج من أحشاء تركيبة القوى الإجتماعية التى تسود الساحة المتناقضة مصالحها مع مصالح الأغلبية من العمال وصغار وفقراء المزارعين؛ وهذا التوقع ليس من الرجم بالغيب. فإذا تفحصنا الخط البيانى للتعاقب على حكم السودان منذ الإستقلال نجده ظل متصاعداً لصالح الأنظمة التى تعيد إنتاج العلاقات الإنتاجية التى أبقت السودان دولة زراعية تابعة يسيطر على الحكم فيها الكمبرادور الذى يحتكر تجارة الصادر والوارد والتوكيلات والتمثيل التجارى. كما أن التغيير على صعيد السلطة ظل تغييراً شكلياً بهدف الحد من مطالب الشعب المتمحورة حول إقامة نظام ديمقراطى يضمن للفرد كامل الحقوق السياسية وتؤكد وثائقه على المساواة بين المواطنين في الحقوق الاجتماعية والسياسية دون تمييز في الدين والعنصر والجنس.
والسبب الذى ظل يعيق ميل ميزان التغيير لصالح سلطة سياسية منحازة جانب الشعب هو ضعف القوى الذاتية المتمثل فى فقدان القيادة التى توجه الناس والعمل على مساعدتهم لكى يرتكز نشاطهم على رؤية سياسية واضحة ومتكاملة بديلة للنظام القديم. وفى هذا الخصوص تجدر الإشارة إلى أن بعض التيارات التى تقود المعارضة لا يمكن التعويل عليها فى خلق النقيض للأوضاع السائده إذا لم تكن النتيجة حال صعود قادتها للسلطة وقوع البلاد فى قبضة نظام أشد بطشاً. نحن نتحدث هنا عن تيارات يقودها زعماء يدَّعون معارضة النظام فى حين إشتراكهم فى مفاصل السلطة العسكرية واضح لا تخطئه العين، وعن حركات معارضة تفتقد للبوصلة الفكرية التى ترشدها لوضع وتبنى البرامجية السياسية الصحيحة؛ بعض قادة هذه الحركات يسرفون بهوس فى مسألة الهوية لدرجة إتخاذ "ألوان الناس" اداة تحليلهم للأحداث!
وبالطبع ليس المقصود من السابق الاستخفاف بالإنتفاضات الجماهيرية أوالمناداة بمنعها، فهذه التحركات رد فعل طبيعى لطغيان نظام الإنقاذ ومكابر من يستطيع وقفها ولكن أى إنتفاضة لا تستطيع ان تطرح من المهمات الا ما تساعد الظروف الموضوعية على انجازه. وليس صحيحاً مخاطبة جموع الشعب بالقول " كفوا عن نضالكم فهو هراء باطل " بل المطلوب أن نوضح لهم " مغزى نضالهم وإعطائهم الشعار الحقيقى للنضال".
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة