(1) وددنا لهذه السلسلة أن تتصل وفق المسار المنهجي الذي ابتغيناه لها، ثم نتيح زاويتنا من بعد ذلك للحوار حول مكامن الاتفاق وجيوب الخلاف. ولكن ما باليد حيلة، فما إن خرجت حلقة الأحد الماضي حتى دهمني بعض الأحباب من المعارضين بالردود المجلجلة والتعقيبات المزلزلة. منهم من أعلم أنه يحمل هموم الشأن العام بروح التجرد الوطني، ومنهم الكذبة والأدعياء ممن يتوسلون دوراً وقيمة، ويبحثون لأنفسهم عن مكان تحت الشمس في عالم أصبح شديد القسوة لا يرخي عنانه لأحد إلا بشق الأنفس، وذلك بانتحال صفة المناضلين المدافعين عن الشعب والمنافحين عن الحريات. وما أكثر الموتورين المحسورين الذين وجدوا في هذه الصفة ملاذا يؤمنهم ضد الأشباح والكوابيس التي تنغص حيواتهم وتملؤها بمشاعر الخيبة والعجز.
(2) من بين الأخيرين حبيب كان في الأصل صحافيا من الخلية الأولى التي أسست صحافة العصبة المنقذة غداة انقلابها، مباشرة بعد مصادرة وإغلاق الصحف صبيحة الثلاثين من يونيو 1989 وتشريد مئات الصحافيين ثم انتخاب قلة قليلة من الموالين لتسيير صحافة النظام. عرفته إحدى الصحيفتين الرسميتين عقب الانقلاب على الديمقراطية الثالثة، وكانت تحمل اسم (الإنقاذ الوطني) في سنيّها الأولى واحدا من أنشط كادراتها، يهدر بحمد الانقلاب مع الحامدين، ويبشر بسياساته مع المبشرين، ويدوّن مانشيتات الصفحة الأولى من شاكلة (البشير يعانق الجماهير) و(الشمالية تحمل اللواء الزبير على الأكتاف) و(الطيب "سيخة" يقود الثورة الإدارية) وذلك في وقت كانت المعتقلات فيه تئن تحت وجع أكوام المعتقلين.
ولكن العصبة المنقذة لا أمان لها، وللصحافة ناموسها وقاموسها، فما إن تحررت شيئا فشيئا من قيد السلطة وانفسح المجال للصحف المستقلة بتطور مسيرة الإنقاذ حتى تسيّد الساحة المقتدرون عبر المنافسة الحرة، فوجد صاحبنا نفسه مهيضاً منسياً مع سقط المتاع، ومن هم أصغر منه سناً من الصحافيين يصعدون إلى مواقع رئيس التحرير، وأصحاب المواهب والقدرات الأوفر يأخذون أمكنتهم في صفوف كتاب الصف الأول!
خرج البائس كسيراً، يحمل بقجة مراراته وخيباته وسخائمه، إلى دولة عربية ليعمل محررا في إحدى صحفها. ثم انتظر لبعض الوقت بأمل أن يضيع أثر مجاهداته الإنقاذوية وسط غبار الأزمنة المتقاطعة، فلما استأنس شيئا من الاطمئنان انطلق كالأسد الهصور يعرض نفسه (مناضلا) شرسا وداعية من دعاة الديمقراطية. تسمع هديره وزئيره وهو يأخذ على النظام وزر مصادرة الديمقراطية وتضييقه لمساحات الحرية فتحسبه نشأ وترعرع في طرقات أثينا القديمة وليس في حواري صحافة الإنقاذ عهد سطوتها، يزيّن أكثر سنيّها افتئاتا على الحريات والديمقراطية، يشد أزرها ويعينها على تسيير ماكينات صياغة الرأي العام!
ضربت كفا بكف عجبا إذ وقعت على هذا المنافق، الذي لفظته العصبة المنقذة كما تلفظ منديل الكلينيكس بعد أن استهلكت طاقة نفاقه وملقه، يجوب مواقع التواصل الاجتماعي يوزع الاتهامات لشخصي ويزعم للناس أنني أكتب سلسلة (معادلة الأمن والحرية) تملقاً للجلاوزة والبصاصين وطلبا لرضا السلطة!
(3) كذب وأيم الحق، وإنما يتملق الأنظمة أمثاله من الذين ينطق تاريخهم بلسان، ويشهد عليهم عشرات الصحافيين من زملائهم السابقين الذين يرون غبار النضالات الحنجورية الغوغائية تزحم الوسائط فيغطون أفواههم بأكمام جلابيبهم حتى يكتموا الضحكات، فيسترون ولا يفضحون!
أما صاحب هذه الكلمات فآراؤه ومواقفه كتابٌ مفتوح ومعلن. لم يقل بها مستخفيا داخل جرّة، كما المسلمون الأولون خوفا وتقية، وإنما صدع بها على رؤوس الأشهاد. اكتب اسمي مثلثاً، أعزك الله، في محرك البحث الغوغلي فتأتيك كلماتي من كل حدب وصوب، تقول إنني أعلنت مرارا وتكرارا رفضي المطلق والقاطع لدعوات إسقاط السلطة المركزية التي يمثلها النظام القائم، وطالبت المعارضين بخارطة طريق وضمانات بتجريد الفرقتين التاسعة والعاشرة للحركة الشعبية وكل التنظيمات المتمردة في غربي السودان من أسلحتها.
وكتبت وكررت، حتى مللت التكرار. إنني أرى في السلطة المركزية القائمة الضمان الأوحد لحماية وجود ومقدرات السودان العربي الإسلامي في الشمال والوسط النيلي، والحؤول دول وقوع السودان في قبضة الفوضى كغيره من دول الإقليم. لا سيما بالنظر إلى التغيرات الديمغرافية المهولة التي اكتنفت البلاد نتيجة لانفتاح حدودنا الغربية والشرقية والجنوبية على مصاريعها، في ظل انغلاق تام للحدود الشمالية، مع تدنٍ مريع للوجود البشري بحيث أصبح تعداد سكان ولايتي الشمال من الجيلي إلى وادي حلفا يقل عن تعداد سكان محلية أمبدة!
وكتبت تبعا لذلك وبغير تهيب، انطلاقا من ذات المنظور الاستراتيجي، أنني أخالف الداعين إلى تكسيح جهاز الأمن والمخابرات بتجريده من سلطاته وصلاحياته وتحويله إلى (فرقة حسب الله) إرضاءً لبعض ناقصي العقل والدين والولاء الوطني، وبيّنت دوافعي وما زلت أبذل منطقي وأنهض بحججي.
(4) بيد أنني أقدر غاية التقدير المقالات والمشاركات التعقيبية التي دفع بها إلى سوح الوسائط التواصلية الأستاذ إبراهيم الشيخ الأب الروحي لحزب المؤتمر السوداني، والقيادي البعثي الأستاذ محمد ضياء الدين. والتي أرى أنها، خلافا لمظهرها الخارجي، تدعم المعلومات التي وردت في الجزء المستهدف من سلسلتي. إذ ذكر الأستاذ محمد ضياء الدين أنه عند شعوره بوعكة أثناء اعتقاله تم نقله إلى مستشفى الأمل. ولكنه أنحى باللائمة على جهاز الامن لإجباره على أكل وجبات من طبيخ (الرجلة) الذي يمقته. كذلك أفادنا الأستاذ إبراهيم الشيخ أنه يرى في فرض الرجلة سيئة الطبخ طعاما أوحد للمعتقلين نوعا من التعذيب.
وفي نيتي أن أتطرق في حلقة الأحد القادم بشيء من التفصيل إلى الجوانب الموضوعية في معاظلات الحبيب إبراهيم الشيخ التي يظن، هو ومشايعوه، أنها تقف دليلا على عوار وخطل المعلومات والبيانات التي أوردتها حول نظم الاعتقال والضوابط التي تحكمه.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة