(1) نُحُول المنطق وهزاله، وقلة الحيلة، وشح البضاعة من فقه المسئولية الوطنية تبدو ظاهرة في متن الدعوى التي طار بها من يسمّون انفسهم (دعاة الحريات) من جماعة المؤتمر الشعبي وأتباعهم الذين استهوتهم فكرة تجريد جهاز الأمن الوطني من الصلاحيات المتعارف عليها دوليا لهذا النوع من الاجهزة، ومن ثم إحالته الى صندوق لجمع (القوالات).
ومن عجب ان هؤلاء لا يُنكرون حاجة البلاد الى سلطة أمنية تنفيذية فاعلة تحرس الوطن وتحمي مقدراته، ولذا فهم لا يطالبون بنزع الصلاحيات التنفيذية عن الجهاز قولاً واحدا بحيث تُترك البلاد من بعد ذلك سداح مداح، مفتوحة على البحري، كما يقول أحبابنا في شمال الوادي، أو (أم فكو) كما هو التعبير الصحافي المعتمد عند صديقنا الكاتب النجم عثمان ميرغني. وإنما ينادي حواريو (إمام الحريات) بأن تسند السلطات التنفيذية بكاملها الى جهاز آخر بخلاف الجهاز الحالي!
هم إذن ليسوا مخابيل، لا سمح الله، إذ يعلمون علماً نافياً للجهالة انه لا توجد دولة محترمة واحدة في العالم تخلو من جهاز أمني استخباري مكتمل الصلاحيات يقوم على مقتضيات أمنها القومي.
(2) وترجمة مقترح القوم في التطبيق والعمل هو ان يقوم الجهاز المنزوع الأسنان بجمع المعلومة من مظانها حال وقوعه عليهاثم يحيلها، صرة في خيط، الى كيان آخر مكتمل الأنياب والأضراس الأمنية مخولا لممارسة سلطات أمنية تنفيذية شاملة، سواء جاءهذا الكيان الآخر مستقلا بذاته او ملتحقا بقوة اخرى كالشرطة مثالا!
ولكن ما هي الضمانات التي يحملها لنا هؤلاء بألا يتحول الجهاز الجديد هو نفسه الى (طاغوت قمعي) آخر؟ في الحقيقة انه ليست عند القوم ضمانات ولا هم سألوا عنها. المهم عندهم هو تكبيل جهاز الأمن والمخابرات القائم وتصفيده بالأصفاد وتلقيح اختصاصاته على شجرة اي جهاز آخر كيفما اتفق، والباقي على ربنا وهو اللطيف الخبير.
ما هذا التهريج؟ أيصح ان تُدار الدول ومقدرات الأوطان والشعوب على هذا النحو؟!
(3) الصيحة تعلو بأن جهاز الأمن والمخابرات الحالي يحتاز سلطات لا متناهية، وان بوسع أى فرد من منسوبي هذه المؤسسة ان يلقى القبض على اي مواطن فيرمي به في غيابات الجب بلا رقيب او حسيب أو وازع من قانون، وأن زنازين الجهاز تمور وتكتظ بالمعتقلين السياسيين من المناضلين المعارضين، بل أن بعض هؤلاء البؤساء أصابه الجرب من طول المُكث، كما في قول احد دعاة خلع الأسنان. وأنه لا بد بالتالي من تقويم الأوضاع وإعادة صياغة المؤسسات الأمنية بما يرد الحقوق ويؤمن الحريات، ويكون ذلك بنقل سلطات الاعتقال والتحري والمتابعة الى كيان آخر تشرف عليه النيابة العامة.
ولو صح ما تقدم فإن الأمر مهول والخطب جلل. ولا ريب في ان السلطة المطلقة مفسدة مطلقة. فهل هذا هو الواقع فعلا، ام هي خزعبلة من سحّارة الخزعبلات، وأسطورة من كتب الأساطير؟! سنرى.
(4) هل تعلم، أعزك الله، ان سلطة الاعتقال مناطة بشخص واحد فقط لا غير، وهو مدير عام جهاز الأمن والمخابرات شخصيا، وحده لا شريك له! بمعنى انه لا يوجد أى فرد مهما عظمت رتبته داخل الجهاز يستطيع ان يأمر او يباشر عملية اعتقال لأي مواطن دون تصديق مكتوب من رئيس الجهاز وتحت توقيعه. ثم هل تعلم ان فترات الاعتقال محددة تحديدا دقيقا، ولم يتم تجاوزها في اي حالة إلا بسند من القانون وتوجيه من النيابة العامة؟
في الممارسة العملية، وفق القانون، فإنه يحق للجهة الأمنية بناء على مسوغات محددة ان توصي باعتقال شخصية معينة، ولكن الاعتقال لا يتم الا بعد رفع مذكرة يطلع ويوافق عليها رئيس الجهاز ثم يصادق بالتنفيذ، إذا توفرت لديه القناعة بحتمية إنفاذ ذلك الإجراء.
ثم ان الاعتقال في هذه الحالة، وهذا هو الأهم، محدد بفترة لا تتجاوز خمسة عشر يوما، فإما اطلق بعدها الشخص، او تم التجديد له وفق القانون. وفي كلا الحالين يقوم وكيل النيابة المختص المعين بواسطة وزير العدل بمراجعة إجراءات الاعتقال او التجديد. كما يقوم وكيل النيابة بتلقى الشكاوي من المعتقل والبت فيها. ويجوز للمدير العام ان يأمر باعتقال شخص اعتقالا تحفظيا لمدة شهر واحد والتجديد لمدة خمسة عشر يوما ترتيبا على ذات المسار القانوني.
أما الاعتقال للفترات المتطاولة، التي تبلغ ثلاثة أشهر، في حالة الاشتباه في الجرائم الكبرى او التحفظ لاعتبارات الامن القومي، فهي خارج سلطات الجهاز تماما، إذ تدخل في دائرة اختصاص مجلس الأمن الوطني الذي يرأسه رئيس الجمهورية. ولا بد ان يجتمع مجلس الأمن الوطني بكامل عضويته برئاسة رأس الدولة شخصيا ليبت في أمر اعتقال اي مواطن لفترة ثلاثة أشهر، وذلك أما في اجتماعه الدوري الراتب او في اجتماع طارئ يعقد لهذا الغرض. أما التجديد في حالة الاعتقال المتطاول فلا يتم إلا بأمر النيابة العامة او السلطة القضائية!
(5) لهذا كله قلنا اننا نحتاج حتى نتمكن من معالجة واحدة من أهم القضايا المطروحة على الساحتين السياسية والتشريعية في مرحلة التعديلات الدستورية والانطلاق في مسار التحول الديمقراطي الراشد، وهي قضية دور جهاز الامن والمخابرات الوطني، نحتاج الى الاطمئنان الى أننا نحوز المعلومة الصحيحة ونتملكها ملكية كاملة بغير ضباب او غبش، وننطلق من أرضية صلبة من الحقائق، واننا بالتالي قادرون على التمييز بين هذه وبين الخزعبلات والأساطير.
أما حشود (المناضلين الذين تعج بهم المعتقلات حتى أصابهم الجرب) فأنني أرجو، وبكل الاحترام، من أحزابهم وتنظيماتهم الموقرة ان توافيني بقوائم تحتوى على اسمائهم الثلاثية وتواريخ اعتقالهم قبل نشر الحلقة الثالثة من هذه السلسلة الخميس القادم.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة