(1) تُنسب إلى الفيلسوف الفرنسي رولان بارت عبارة: (التاريخ الرديء فقط هو الذي يكرر نفسه). ويُنسب إلى جماعة حزب المؤتمر الشعبي المنخرطة في الحوار الوطني، يتبعها الغاوون من تنظيمات المعارضة غير المنخرطة، أنها تنادي بتقليم أظافر جهاز الأمن والمخابرات وخلع أنيابه، وتجريده من سلطاته المكفولة له وفقاً لقانون الأمن الوطني، ومن ثم إحالته إلى منظمة بحثية جامدة هامدة تختص بجمع المعلومات!
وتلك في أصلها ومحتواها دعوى عوراء تعيسة، يقول بها قومٌ تائهون يريدون أن يعيدوا تدوير التاريخ الرديء، وأن يكرروا أمام مرائينا ومسامعنا تجربة أكثر عواراً وتُعساً، شبيهة إلى حدٍّ كبير بتجربة حل وتصفية جهاز أمن الدولة في أبريل 1985م التي دفع السودان من جرائها أثماناً بهيظة فادحة، كونها جاءت خصماً على استقلال الوطن واستقراره وأمنه القومي. وقال بحقها الدكتور الجزولي دفع الله، رئيس الوزراء آنذاك، إنها كانت من أكبر أخطاء الانتفاضة وأكثرها جسامة.
ومن مفارقات الزمان أنه كانت من ثمرات تجربة تقليص ثم تصفية ذلك الجهاز التي تهافتت وراءها قوى سياسية قليلة النضج، قصيرة النظر، عديمة البصيرة، تعشق الشعارات وتتعلق بأهدابها، كانت من ثمراتها تهيئة الفضاء وتسوية الأرض لإنفاذ انقلاب الجبهة الإسلامية القومية في يونيو 1989. وفي حكمة أحبابنا في شمال الوادي (ما حدّش بيتعلم ببلاش). أما عندنا في السودان فحكمتنا تقول: (محدش بيتعلم لا ببلاش ولا بفلوس). وفي مثل هذا الحال من البؤس والخيبة قال سعد زغلول: "مافيش فايدة، غطيني يا صفية"!
(2) أي نعم، تلك دعوى عوراء شائهة، فقيرة الخيال، تعوزها روح المسئولية الوطنية، إذ تجيء في زمانٍ منكود أغبر تُحدق فيه بوطننا الغالي أصنافٌ من المخاطر، ويحفُّ به حملة السلاح من كل طرف أتيته، بما في ذلك أطراف الخرطوم، من فصائل عرقية بعينها، تحدثها نفوسها الأحاديث عن حقوق متوهمة تؤخذ غلابا بحد الكلاشنكوف، وما فتئت تنظر إلى الأعراق المُساكنة لها في السودان الكبير شذراً.
وقد بلغت الجرأة بهؤلاء أن سعت بعض مليشياتهم المسلحة ذات يوم من أيام العام 2009، مستنصرة بأقوام من وراء الحدود، من تشاد وإفريقيا الوسطى، إلى السعي لاحتلال عاصمة البلاد، وإسقاط السلطة المركزية، وإقامة نظام حكم تكون الغلبة فيه لأعراقها التي تزعم نخبتها في أدبياتها السرية أنها الأولى والأحق بالسلطة والثروة!
(3) ومن المحيّر والمثير للعجب حقاً أن الذين يتولون كبر هذه الدعوى والمهرولين بها في سوح الخرطوم اليوم إنما ينطلقون من وهمٍ كبير صدقوه وعاشوا في كنفه. جوهر دعايتهم الواهمة أنهم دعاة حريات، إليها دعا أمامهم الراحل حسن الترابي وبها أوصاهم، وأنهم على محجتها البيضاء، ولهذا فقد أطلقوا عليه (إمام الحريات). يا سبحان الله! ما أظن أنني رأيت في حياتي كلها خزعبلة أكبر من هذه.
التاريخ المرصود يعلمنا أن الدكتور حسن الترابي هو من خطط ودبّر للانقلاب على النظام الديمقراطي عام 1989 فقضى على الحريات العامة في البلاد القضاء المبرم. ونعلم أنه كان الحاكم بأمره خلال سني العشرية الأولى. حمانا الله من سيرة العشرية الأولى التي شهدت المظالم والذل وقهر الرجال، وسادها حكم الجبروت بكل معانيه ومغازيه. وهي ذات العشرية التي استحال فيها السودان إلى بؤرة للإرهاب الدولي فاحتضنت المزارع في حفافي الخرطوم صنوفاً من القتلة والمجرمين الملتحفين بجلابيب الدين وتلابيبه، حتى أنهم أقاموا محاكم خاصة بهم تحاكم وتحكم وتنفذ أحكام الإعدام، في تجاوز مُهين لسيادة الدولة وقوانينها، كما جاء في مذكرات بعض التائبين من قادتهم، كالأمير السابق لتنظيم الجهاد المصري المدعو سيد إمام الشريف الشهير بلقب (الدكتور فضل). فكيف يكون الرجل الذي أحال البلاد إلى سجن كبير ودُقت في عهده المسامير في رؤوس المعتقلين، وانفتحت البلاد على مصاريعها للإرهابيين والمطاريد من كل صوب وحدب، كيف يكون إماماً للحريات. ما هذا الهراء .. ما هذا الدجل؟!
(4) نريد من خلال هذه السلسلة أن نعرض إلى الدور المُسند دستوراً وقانوناً إلى مؤسسة الأمن والمخابرات فنتفحصها من حيث المنظور الاستراتيجي ومن زاوية التطبيق والعمل، حتى نعرف أين أوفت بالتزاماتها الوطنية فكانت على مقدار الرجاء، وأين تنكبت الطريق فأخفقت في التعبير عنها.
في خطتنا أن نتوجه بالأسئلة ونطرح الأجوبة حول منهج إدارة الحريات السياسية في بلادنا اليوم، وما هو متاح منها من مساحات مقارنة بغيرنا من الدول، النامية منها والمتقدمة. كم يا ترى هو عدد المعتقلين السياسيين الذين حددت المؤسسة الأمنية حرياتهم، وكيف ولماذا؟ ومن الذي يملك أصلا سلطة التوقيف والاعتقال، وما مدى الإشراف العدلي على مراحل ممارسة السلطة الأمنية والاستخبارية. ثم، ما هو حجم الخلل في معادلة الأمن والحريات إن كان ثمة خلل؟
(5) مبتغانا من وراء كل هذا أن نتفحص ونحصحص، حتى نميز بين الحقائق وبين الأساطير، بين الثوابت وبين الخزعبلات، وأن نُبيّن لك، أعزك الله، لماذا تجدنا دوماً من أنصار جهاز أمني وطني قوي وفاعل، قادر على حماية السودان من شرور أنفس وسيئات أعمال.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة