كانت بخيتة تجلس القرفصاء في بيت الجالوص متعدّد الغرف.. تجذب أنفاساً عميقة من سجائر من الماركة الرديئة .. سيدة البيت التي لها خبرة طويلة في العمل تحاول إقناعها أن تتهيأ لوردية المساء.. قبل أن تبارح بخيتة (البنبر) الحديدي، بدأت السيدة العجوز فاصلاً من الثرثرة.. لم تعُد المدينة كما السابق بعد وصول الحكومة الجديدة..عربات الشرطة يمكن أن تحاصر المكان في أي لحظة.. لم تعُد الدعارة مهنة محمية بالقانون تحتاج ممارستها لرخصة.. هذا البيت قبل سنوات كان يعج بالنشاط .. هنا منضدة لعب الميسر .. في الجهة الأخرى تلفزيون مزود بجهاز فيديو يعرض أفلاماً جنسية.. ثم ترفع السيدة العجوز يدها المكسوة بشحوم كثيفة لتشير للزاوية الجنوبية حيث حانة بلدية لبيع الخمور. قبل أن تكمل السيدة العجوز روايتها التاريخية .. سمعت طرقاً خفيفاً على الباب.. أغلب الظن أن زبوناً محتملاً جاء بعد أن غابت الشمس.. لم تكن بخيتة التي غيّرت اسمها إلى نادية تحتاج إلى إشارة الاختفاء من المسرح حتى يتم تبيّن مهمة الزائر.. مضت نادية أو بخيتة ومن ورائها سحب دخان حتى بدت مثل الطائرة النفاثة المعروفة بـ(أم ضنب ) في الأوساط الشعبية.. حينما وصلت بخيتة إلى المطبخ بدأ قلبها يدق بسرعة متناهية.. هذا الصوت كأنما سمعته من قبل.. يبدو مثل صوت شقيقها الأكبر بابكر.. شعرت أنها باتت في قبضة الأسرة.. عشر سنوات من الهروب تنتهي هكذا.. تذكرت الباب السري.. لم يكن باباً بالمعنى المعروف.. لكن الحائط الجنوبي المفضي إلى بيت العزابة يمكن تسلقه بسهولة.. من الأفضل لها أن تقع في براثن هؤلاء القساة من أن تعود لأسرتها. قبل أن تقرر الهروب حاولت أن تتبين ملامح الزائر عبر النافذة الخشبية المهترئة.. حينما ثبتت بصرها على الهدف شعرت أن قواها تخور.. كانت ترى منظر قريتها الوادعة في تلك البادية.. ارتمت على سرير خشبي متهالك كان به بعض من بقايا أوانٍ منزلية تم غسلها.. صوت القطار يسري في دواخلها.. كانت دائماً تخاف من القطار.. كل كوابيسها بطلها ذاك القطار. كانت ابنة خمسة عشر عاماً.. تعيش حياة مستقرة مع أسرتها الممتدة.. والدها يجمع بين مهنتي الزراعة وبيع المواشي في الأسواق الطرفية.. جدتها لأبيها تملك نفوذاً كبيراً على البيت.. حينما همّ والدها بإرسالها إلى داخلية المدرسة الثانوية جاء صوت الاحتجاج قوياً من حبوبة أم الحسين.. كان عليها أن تنتظر ابن الحلال أو الاعتناء ببعض الأغنام التي تمتلكها حبوبة أم الحسين. لم تنتظر بخيتة كثيراً، وجاء عيد الأضحى .. مضي والدها وإخوتها إلى محطة القطار.. ابن عمها عيد الذي يعمل في الجيش سيقضي عطلة العيد معهم.. وصل عيد وكان يمتشق زياً عسكرياً لفت أنظار كل سكان القرية.. أغلب الظن أنه فعل ذلك ليثبت للقرية أن التمرد على الأعراف ليس سيئاً.. هرب عيد من القرية حينما أجبر على مغادرة مقاعد الدراسة وطُلب منه أن يسرح بأبقار الأسرة.. منذ ـن وقعت عينا المراهقة على الضيف حتى هامت به حباً.. لم يكن هنالك من سبيل غير أن تلتقي الأعين خلسة.. رغم أنه لم يقل كلمة واحدة، إلا أن بخيتة تأكدت أن أوان مفارقة القرية قد اقترب.. حينما ودّعها عيد في اليوم الخامس شعرت أنه ربما يفاتح والدها في أمر الزواج. بعد ثلاثة أشهر فاقت الريفية المراهقة من الصدمة.. حبوبة أم الحسين نادتها إلى غرفتها الطينية.. من شنطة حديدية محكمة الإغلاق أخرجت خاتم الجنيه الذهبي وضعته بإحكام على بنان الصبية التي كانت في حالة اندهاش .. بعدها نقلت لها الخبر.."فضل الله ود حمد سيعقد قرانه عليك في صلاة الجمعة" .."لكن يا حبوبة فضل الله متزوج من ثلاث سيدات وابنته كانت زميلتي" .. قبل أن تكمل بخيتة مرافعتها طلبت منها حبوبة أم الحسين الانصراف لأن الأمر بات في حكم المقضي .. خرجت بخيتة وعيناها تفيض من الدمع.. ذات الأخبار جاءت مؤكدة من والدها حميدة ود الريح.. وحدها والدتها التي تعاطفت معها .. لكنها لم تكن تملك صوتاً في المنزل الذي تسيطر على أركانه حبوبة أم الحسين. منذ اليوم التالي بات البيت الصغير يفيض بالمهنئين.. نساء تفرغن لصناعة عطور الزواج.. أخريات من كبار السن كنّ مشغولات بشرب القهوة في مجلس حبوبة.. رغم الحزن رأت بخيتة أن تتظاهر بالاستسلام.. كان قرارها النهائي أن تهرب من القرية الظالم أهلها.. كل ما تعرفه أن قطار الأربعاء المتجه نحو الخرطوم يتوقف في محطة القرية فجراً.. إن تمكنت من ولوج ذاك القطار ستنجح في الوصول إلى ديار ابن عمها عيد الذي يعمل بالقوات المسلحة . وجهها الصبوح كان يفتح لها الطريق .. لكن منذ اللحظة الأولى تأكد لها أن الرحلة ليست بذاك اليسر.. المفتش الذي يقترب من عمر والدها عرض عليها غرفة خاصة في نهاية القطار .. تعاملت معه بذكاء طالبة تأجيل العرض لحين الوصول للخرطوم .. بعد رحلة يومين وجدت بخيتة نفسها هائمة في مدينة مزدحمة.. لم تجد سبيلاً لفارس الأحلام.. كانت ساذجة في بلد مزدحم بالأتقياء والأنقياء والبخلاء وأصحاب الغرض والمرض.. انتهت رحلتها إلى هذا البيت المتعدد الغرف والمحاط بالمخاطر .. ليس لها شيء تخسره بعد أن خسرت شرفها.. رغم ذلك كانت تخاف من القطار الذي يحملها في رحلة العودة إلى القرية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة