إذا نسي السودانيون جميع عباقرة الموسيقى في العالم فإنهم لن ينسوا ناجي القدسي الذي حفر إسمه بأحرف من ذهب في تاريخ الأغنية السودانية ، وإذا لم يفعل شيئا بتاتا فيكفيه أنه ملحن " الساقية لسه مدورة " . في ثمانينات القر ن الماضي وكنت سكرتير الجالية السودانية في الكويت ، أحضرنا الراحل المقيم محمد وردي الذي أحيا ثلاث حفلات رائعة كانت حديث السودانيين في الداخل والخارج ،ولشدة إعجابي بالفنان حمد الريح إقترحت حضوره إلى الكويت وتمت الموافقة بالإجماع ، كان القدسي يتابع الأمرويتمنى زيارة الكويت والإلتقاء ببعض الإخوة اليمنيين المعروفين بالطيبة والأمانة ،ولكن لظروف قاهرة لم يتمكن من زيارتها بينما جاء إليها حمد الريح وأجريت معه حوارا مطولا لصحيفة الوطن الكويتية وأحيا عدة حفلات غنائية وكانت " الساقية " مدورة في جميعها ، إتصل بي القدسي يسألني عن حفلات حمد الريح فقلت له : نحن راكبين في الساقية ونشد في الضراع " ضحك وقال لي : يا بختكم !!!!! وللحقيقة لما يغني حمد الساقية تقوم ثورة !!!!! بالأمس القريب ودع السودانيون قيثارة الأعنية السودانية ومبدعها اللامع ناجي القدسي تماما مثلما كتبت عنه الصحف ووكالات الأنباء وويكيبيديا عربي ومحطات التلفزة الفضائية . ناجي القدسي من أهم عباقرة الموسيقى السودانية.. كما يعد صاحب بصمة خاصة في التراث الموسيقي السوداني بشكل خاص وتراث السلم الموسيقي الخماسي بشكل عام.. وأثره على الوجدان السوداني والأفريقي شديد العمق منذ بدأ رحلته الفنية أوائل ستينيات القرن العشرين، من خلال ألحانه المميزة التي تعبر عن مشروع موسيقي اجترحه بوعي واشتغل عليه بإمعان.. وأمتع الناس به.. وقدم عبره تراثاً جعله موضع تقدير السودانيين جميعاً. حقيقة فجعت و فجع الوسط الفني والثقافي في السودان واليمن، برحيل الموسيقار الكبير ناجي القدسي، الذي غيبه الموت ليل الخميس الماضي عن عمر ناهز الـ 70 عاماً، وذلك بعد أن عانى هبوطاً حاداً بعد عملية قلب مفتوح أجريت له في أحد مستشفيات صنعاء.
ويخيل لي أن رائعة عمر الطيب الدوش ومفارقته أرض السودان أودت بحياته وأنا أعرفه جيدا وأعرف نحافته ورهافته .
ناجي القدسي والده محمد عبدالله الهيثمي ووالدته السودانية فاطمة محمد سعيد الميرغني ، تزوج اليمني محمد عبد الله الهيثمي من امراة سودانية من نساء عطبرة، وفي عام 1944 انجبت له توأم سماهما الحسن والحسين تيمنا باحفاد الرسول الكريم ، شاءت الاقدار ان يتسمم الطفلان ويموت الحسن وينجو الحسين ويسمي بناجي . التحق الطفل بالكتاب في مدينة عطبرة لحفظ القران والحديث ، ولحبه وترديده للاحاديث القدسية أطلق عليه اقرانه لقب القدسي فصار ناجي القدسي ، كما التحق بمدرسة كمبوني الكاثوليكية الإيطالية التي تنتشر فروعها آنذاك في مدن
السودان ، وكانت في المدرسة راهبة إيطالية تعزف مقطوعات من الموسيقى العالمية على آلة البيانو، في صالة بعيدة عن الفصول الدراسية ، أولع ناجي بعزفها واكتشف شغفه المصيري بالموسيقى، فكان يهرب من حصص الدراسة متسللاً إلى صالة الموسيقى للاستماع إليها، وما لبث أن تعلم بمفرده العزف على العود، وبدأ التلحين وهو في الثانية عشرة من عمره،وبعد منتصف الخمسينيات من القرن العشرين انتقل مع أسرته إلى الخرطوم، وهناك واصل السعي لتعلم الموسيقى، فالتحق بمدارس الجامعة الشعبية حيث درس الموسيقى على يد أستاذ العود المصري عبد المنعم
عرفة ،وفي السادسة عشرة من عمره ألف ناجي مقطوعته الموسيقية الأولى (آمال) التي سجلتها أوركسترا الإذاعة السودانية عام 1961. ولحن ناجي كثيرا من الأغنيات العاطفية والوطنية لعدد من المطربين السودانيين واليمنيين، من بينها أعمال ملحمية من التراث الشعبي السوداني، وأخرى مسرحية من الأدب العربي، كمسرحية مأساة الحلاج لصلاح عبد الصبورالتي أخرجها د. عثمان النصيري فامتلأ المسرح القومي بأم درمان عن
آخره .ولكن العمل الأبرز الذي أصبح أيقونة بالنسبة للشعب السوداني تمثل في أغنية الساقية التي ألفها عمر الدوش ولحنها نهاية الستينيات في ليلتين فقط على رمال شاطئ النيل الأزرق، وأداها المطرب حمد الريح لتصبح فيما بعد ذروة تجربته الثرة.
بيد أنه أضاف إلى اللحن هتافات مناوئة للرئيس السوداني السابق جعفر نميري، كانت ترددها الآلات الموسيقية.ولكن هذه الهتافات الموسيقية، وفيما يشبه دوران الساقية، تحولت إلى هتافات كلامية صريحة رددها المتظاهرون المناوئون لحكم نميري، إبان انقلاب أطاح فيه الحزب الشيوعي بحكم النميري لمدة ثلاثة أيام في يوليو عام 1971 قبل أن يعود نميري مرة أخرى.وسرعان ما حظر تداول الأغنية، واعتقل بسببها ناجي القدسي. وبعدما أفرج عنه بعد ثلاثة أشهر من الاعتقال، فرض عليه حصار فني وأوصدت أمامه جميع الأبواب طوال عقد السبعينيات.وهجره حتى اصدقاؤه مما اضطره إلى مغادرة السودان في الثمانينيات إلى اليمن.وبالرغم من أنه واصل هناك عملية التلحين لمطربين يمنيين، من بينهم أبوبكر الفقيه، وسودانيون كثيرون، فإنه عاش في شبه عزلة في ظروف قاسية في غرفة متواضعة وسط العاصمة اليمنية صنعاء، التي وافته المنية فيها، بعد عملية جراحية في القلب.
ويعد الموسيقار ناجي القدسي أحد أهم الموسيقيين في العالم العربي، وتعد تجربته في الموسيقى السودانية، من العلامات المميزة حداثة ورؤية، من خلال فلسفة جديدة في الوعي بالموسيقى، ترتقي بها إلى أعالٍ باذخة الخيال بديعة الجملة مذهلة الانسجام، حيث أنجز مجموعة من الألحان الخالدة.
ومن بين أبرز أعماله الساقية لسة مدورة، وأجراس العودة، ومعزوفة لدرويش متجول، ويا قوت العرش، وأحلى منك، وجسمي انتحل، وحمام الوادي، وتراتيل، والحفيفة، والنضارة، والشيخ فرح، وغيرها.
وتعامل مع كبار الفنانين أمثال: حمد الريح، التاج مكي، أبو عركي البخيت، زيدان إبراهيم، محمد الأمين، مصطفى سيد أحمد وغيرهم. كما تعامل مع كبار الشعراء في السودان أمثال: حسين حمزة، وإسحاق الحلنقي، وعبدالرحمن مكاوي، وعز الدين الهلالي، ومحمد أحمد سوركتي، وحسن ساتي، ومحمود مدني،و محمدالفيتوري
كما تعامل في اليمن مع الشعراء: عبد العزيز المقالح، ومحمد الشرفي، وحسن اللوزي، وعلي صبرة.
.
وكانت آخر أعماله التي أنجزها في السنة الأخيرة 2013/ 2014، لحن (بالسلامة) من كلمات الشاعر حسين حمزة، وأربعة ألحان من كلمات الشاعر والموسيقار الفنان أحمد شادول.
يرحمك الله يا قدسي وأسكنك فسيح جناته وإنا لله وإنا إليه راجعون .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة