في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وضعت أميركا نهاية لتاريخ طويل من العبودية وإزراء الإنسان بأخيه الإنسان. خِيضت الحرب الأهلية طوال السنوات من ١٨٦١ إلى ١٨٦٥م وأودت بحياة ما يزيد عن ستمائة ألف شخص، وتمثلت محصلتها النهائية في تعديل الدستور الأمريكي الذي لم يعد يقرّ باستعباد البشر بعضهم بعضاً. كانت رواية «كوخ العم توم» قد تناولت قصصاً مأساوية لما يتعرض له الإنسان بسبب لونه؛ وجاءت الرواية صادمة للضمير الأمريكي إلى درجة أن الرئيس أبراهام لينكولن طلب مقابلة مؤلفتها، السيدة هاريت بيتشر استاو، ومازحها بالقول: «أهي أنت أيتها السيدة الصغيرة التي تسببت في هذه الحرب الكبيرة؟». ولِم لا تشعل الحرب، وقد كانت كلماتها، بإجماع النقاد، أشد فتكاً من الرصاص وأمضى نفاذاً إلى هدفها منه! بعد أن استقام الأمر جداً للسود، وعقب نحو ثمانين سنة من تلك الحرب، ولد كاسيوس كلاي حاملاً جينات البطولة الموشحة بزي إنساني قشيب. وجدت تلك الجينات أرضاً خصبة لها في حلبات الملاكمة لتنمو وتزدهر فوق ما يتصور العقل. ففي فبراير ١٩٦٤م، دخل كلاي حلبة ميامي بيتش وهو يرتعد خوفاً من بطل العالم للوزن الثقيل، سوني ليستون. وقتها كان ليستون فارس الحلبة، ولا يجرؤ منافس بالغاً ما بلغت جرأته أن يقترب منه في الطرقات العامة ناهيك عن أن يقارعه مقارعة الند للند. كلاي تجرأ، ونازعه داخل عرينه. كان انتصاره يومها، انتصارا على الخوف، الذي سيطر عليه سيطرة كاملة، حسب وصف كلاي لنفسه فيما بعد. وفوق ذلك استطاع أن يعتلي عرش الملاكمة على المستوى العالمي، بعد أن أقصى أسماء رنانة من قبيل فلويد أندرسون وإيري تيريل وجو فريزر وجورج فريمان. بل استطاع أن ينهي كبرياء مدربه السابق، ومنافسه الشرس، أرشي مور، ويقضي عليه. طوال ستينات القرن الماضي، لم يكتف كلاي بانتصاراته في الحلبة؛ بل ذهب إلى أبعد من ذلك لتبني مواقف سياسية تجاه قضايا عديدة على المستويين الأمريكي والدولي. ومن خلال ذلك، أخذ كلاي ينصّب نفسه رمزاً صارخاً لموقف استند على ركائز من بينها أن الإنسان يجب أن تحكمه المبادئ، وأن العدالة بين الناس أمر ضروري؛ وأن الحرب هي عمل لا طائل من ورائه. وانطلق محمد علي كلاي ـ وهو الاسم الذي بات يعرف به عقب إسلامه في ١٩٦٤م ـ ينادي بنبذ العنصرية والعنف بوصفهما الداء العضال الذي ما انفك يفتُّ عضد البشرية ويمزق كيانها شر ممزق. قوبلت مواقفه بمعارضة وتنديد شديدين. لكنه لم يأبه لكل ذلك. استقلال الذات كان ديدنه. أعلن إسلامه، وتخلى عن اسم العبودية، وفقد لقب البطولة لرفضه الذهاب إلى الحرب في فيتنام. لم يأبه لكل ذلك. فهو يرفض الانصياع للقوالب السائدة، والأنماط المألوفة. واجه أشد ضروب المعارضة وأنكى أنواع الاستهجان. لكنه صمد لها جميعاً، بل تحداها، وكانت علامات الحيرة ترتسم على وجوه المعارضين والمؤيدين في الوقت نفسه. هذا الفتى، ذو القبضة اليسرى المنفلتة من قوانين الفيزياء بسرعتها وقوتها، كان واثقاً من علو كعبه على كل منافسيه. أمه، أوديسا، كانت أول من تنبه إلى القدرة الخارقة لقبضته اليسرى. إذ حكت أن طفلها وهو في شهره السادس كان عندما يطلب الثدي، يخبط على وجهها خبطاً سريعاً قوياً ومؤلماً بيسراه، إلى درجة أن فكها قد ارتخى تحت وطأة ضرباته لتفقد أسنان فكيها السفلي والعلوي كليهما عندما تقدم بها العمر. الأب، صانع اللوحات الإعلانية، كان مخموراً عربيداً، لا هم له في الحياة سوى القصف. فدخله المحدود بواقع محدودية فنه ولامحدودية منافسيه من صانعي اللوحات، كان يوزعه بالسوية بين الأسرة والعربدة في المساء في طرقات لوزفيل. أحد أصدقائه حكى كيف أن كلاي الأب قد طرق بابه في منتصف الليل، وعندما فتح الباب وجده ينزف دماً من أثر طعنات نجلاء على صدره، فقال له لا بد من أخذك إلى المستشفى فوراً، لكن كلاي ضحك وقال له: «ألا تعرف كيف يتعامل الكاوبوي مع مثل هذه الحالة؟ إنه سيدلق عليها كأس خمر، ويشرب أخرى ويعتبر الأمر منتهياً!». لكن وبرغم هذه العربدة، كان كلاي الأب من المعجبين بأفكار ماركوس جارفي، ذلك الداعية الأسود الذي قاد ثورة فكرية وخطابية مؤثرة إبان الحرب العالمية الأولى، والذي كان ينادي بالكرامة العرقية وبحياة مشرفة للسود، وإلاّ لأصبحت العودة إلى أفريقيا فكرة صائبة. في تمارينه المستمرة، كان كلاي يدرب نفسه على التركيز العقلي أولاً، ثم على اللياقة البدنية بما فيها القدرة على تحمل ضربات الخصم. كان يدرك أن الإنسان يستطيع أن يحقق ما يصبو إليه إذا أراد وصبر وثابر. وبالفعل فإن الملاكمة ـ على ما يعتورها من عنف جسدي واضح ومنفّر ـ تعتبر نموذجاً ناجزاً لرياضة تستند إلى التركيز العقلي وإعمال الذهن لإجهاد الخصم والتربص به قبل صرعه بالضربة القاضية. الخصومة في الحلبة لم تكن محببة إلى نفسه. أغلب المنافسين كانوا من السود. وكانت الملاكمة، وربما ستظل، رياضة للطبقة الوسطى، من الفقراء والباحثين عن الثراء من طريق الرهانات. الممارسون لها في الحلبة جميعهم ممن يغامرون بكل شيء، بما في ذلك حياتهم. وفي مباراته المشهودة مع جو فريزر في مانيلا، كاد المتنافسان أن يشرفا على الهلاك. قال فريزر: «لقد أصبته بلكمات لو نزلت على عمارة لخرّت ساجدة». وانتصر كلاي، لكنه أقر بانهما ذهبا، هو وفريزر، إلى مانيلا كأبطال، ورجعا منها وقد وهنت قواهما، كما لو أنهما قد بلغا من العمر عتيا! ملاكمون آخرون، مثل جون سوليفان وجيم جيفريز، آثروا الامتناع عن مقاتلة أبناء لونهم، وأبناء طبقتهم. فلماذا نسعد المتفرجين البيض بمقاتلة بعضنا بعضاً وكأننا الديوك في صراع الموت البغيض؟ ومنذ ١٩٨٤م وضعت الأقدار محمد علي كلاي تحت وطأة مرض باركنسون، أو الشلل الرعاشي. وقد شهد العالم كله كيف ارتعشت يدا كلاي في محاولتهما إشعال الشعلة الأولمبية في ١٩٩٦م. كان المنظر مؤلماً. بطبيعة الحال، لم يكن المرض معروفاً بما فيه الكفاية في البداية. وكان التعليل الأقرب للمرض، أنه يأتي نتيجة التعرض لضربات قوية ومتكررة على الدماغ. علماء الأعصاب ترددوا منذ البداية بين العامل الوراثي وتأثير البيئة بما فيها تأثير الملاكمة على ممارسيها. ودارت مساجلات علمية ثرة حول الأمر. ولا يزال الرأي العلمي تائهاً بين السببين: أهي الجينات أم البيئة المحيطة؟ وقد لخصت مؤسسة باركنسون الأمريكية هذه الحيرة في عبارة شاعرية آسرة مفادها أن: «الجينات تلقّم البندقية، وتتكفل البيئة بالضغط على الزناد». هكذا بدأ كلاي حياة تكتنفها الحيرة بما أثاره من تساؤلات حول مواقف مربكة لخصومه ولمناصريه. بيد أنه لم يذهب دون أن يترك خلفه حيرة علمية ستظل موضعاً للأخذ والرد وإن في مختبرات العلم وميادين تطبيقه. لكنها حيرة ستتمخض عن نفع للبشرية في القريب. ذلك أن ثوب الإنسانية القشيب الذي ارتداه يأبى إلاً أن يخفق عالياً وكأنما ليعلن أن صاحبه لا يزال بيننا حياً، وإن بنبل مبادئه.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة