من الأفكار التى لا تصدق عينيك عند قراتها ( والأفكار المحيرة أصبحت كثيرة فى حاضر أيامنا) هى الأصوات التى ظهرت فى العلن داعية الى فرض نوع من الوصاية الدولية على السودان.
المبرر الرئيس لهذه الدعوة على حسب أصحابها هو أن الدول الكبرى التى يؤول لها الإشراف على إدارة السودان لن تنسى مصالحها ولكنها إستجابة لنصائح مجموعة من الحكماء المحليين،( الذين يتم إختيارهم لمساعدة الاوصياء على هتك سيادة الدولة السودانية)، سوف لن تتجاهل مصالح السودان والنتيجة وضع مثمر للطرفين(win-win situation): I love naiveté.
والإنتباه لخطورة هذه الأفكار رغماً عن سذاجتها ينبع من أنها مظهر خارجى لعقلية عاجزة عن إدراك طبيعة الصراع السياسى فى عمق المجتمع، كما أنها تشكل إمتداداً رديفاً لتفشى التعويل الواهم على الدول الكبرى (المجتمع الدولى) لإيجاد حل لازماتنا.
عادة ما يبدأ المنادى بتكليف الدول الكبرى لإدارة السودان بالتشديد على أن عقله خالى الوفاض من أى آيديولوجية وكأن فى هذا التوضيح إثبات لصحة فكرته؛ ولكن سوء الفكرة تحت النظر يعزى بالتحديد لهذا الإعتراف. فالحقيقة الفلسفية الخالدة هى أن الأشخاص الذين يتوهمون بأنهم لا ينتمون لأى إتجاه فلسفى هم فى الواقع حملة أكثر أشكال التفكير سطحية وبدائية. الطبيعة تمقت الفراغ (nature abhors vacuum).
إن الدعوة الى التنازل عن سيادة السودان أو الإستنجاد بالدول الكبرى لحل الأزمة السودانية هى دعوة معكوسة. فالنشاط السياسى ( على صعيد التكتيك والإستراتيجية) المتسق مع مسار التاريخ هو تحرير القرار السياسى والإقتصاد من أسار التبعية للدول العظمى التى تكون دعوتها لحماية السودان مثل تكليف الثعلب بحراسة بيت الدجاج. فالسودان دولة تابعة تحتكر السيادة السياسية فيها طبقة تجارية كمبرادورية ظلت تحمى مصالحها شتى انواع الحكومات المدنية والعسكرية والتعبير عن هذه الحماية بمختلف الآيديولوجيات. ومصالح هذه الطبقة تكمن فى إحتكار مجال التجارة الخارجية والتوكيلات المتعلقة بالإستثمار الأجنبى الذى يشكل قِوام النشاط الإقتصادى بالبلاد.
إن موقف الدول التى تفرض التبعية والاخرى التابعة ليست إختياراً: فالأولى المستعمِرة تتحكم ظروف موضوعية، فى سعيها للسيطرة على البلدان الفقيرة وإستغلالها إقتصاديا،ً تتمثل فى تعويض نقص أرباح مؤسساتها الذى يفرضه تدنى الإرباح فى بلدانها كنتيجة لا محيد عنها فى المراحل المتقدمة لعمل الوحدات الإقتصادية الرأسمالية، وفى مسعاها هذا، وبأسلوب التقسيم الدولي للعمل، فرضت التبعية على السودان أن يبقى بلداً زراعياً محبوساً فى إطار إقتصاد رأسمالى متخلف ومشوه. والثانية التابعة تهيمن على حكوماتها طبقات تجارية مغلوبة على أمرها وليس أمامها من أجل إزدهارها الإقتصادى الراسمالى والشبه-رأسمالى غير تكريس التبعية؛ ومعروف أن النشاط ضد التبعية يعنى، فى آخر التحليل، مناهضة الرأسمالية.
إذن المصالح الإقتصادية للكمبرادور هى ما يجعل السودان قابل للإستعمار. فالقابلية للإستعمار لا يمكن أن يكون سببها خنوع أو صفة سايكولوجية بالدونية أوعدم قدرة على إدارة الدولة تأصلت فى الشعب. وفى هذا الخصوص فإن الإستهانة بالشعب وقدراته، كأحدد المبررات للتبعية، فيها الكثير من عدم الحساسية تجاه الشعب الذى يواجه نظام الحكم إحتجاجاته فى شوارع المدن السودانية بالذخيرة الحية.
إن الدعوة الى أى تدخل أجنبى فى السودان هى هدية (بقصد ام دون قصد) للدول الغربية والأقليمية المتربصة بالسودان فى إطار عملية إعادة تقسيم العالم الجارية الآن على قدم وساق. وليس سراً أن إستهداف السودان بلغ مراحل قصوى تمثلت فى حصاره بشكل ملموس من معظم الإتجاهات الجغرافية وأن المسالة السودانية أصبحت منذ زمن بعيد بنداً ثابتاً فى أجندة إجتماعات مجلس الأمن القومى الأمريكى. ويجدر بنا النظر فى التجارب الماثلة أمامنا والتعلم منها الى أى مصير تقود التبعية، ومن هذه التجارب الماساة التى يعيشها العراق الذى سلمه العملاء العراقيين لأمريكا بدعوى إنقاذ البلاد وشعبها من الدكتاتورية.
إن طبيعة الدولة السودانية حالياً تنسجم تماماً مع مصالح الكمبرادور المار ذكرها، وبالتالى إن النضال ضد إستبدادها، الذى لا تخطئه عين، لن تكن له فاعلية إذا لم ينطلق من الصورة الكلية للمشهد السياسى وعنوانه هو أن إستقلال الإرادة الوطنية هى المهمة الإستراتيجية التى لا مفر أن يكون التكتيك السياسى فى خدمتها أولاً واخيراً.
خارج سياق المقال *** كلما ذُكر التخابر والعمالة تستحضر الذاكرة قصة الصحفى السودانى الراحل الاستاذ أحمد طيفور الذى قابلت الاوساط السياسية السودانية كتابه (حقيقة جبهة التحرير الإرترية-1966) بإلإستهجان والسخط العارم العفويين. ففى كتابه وصف طيفور الجبهة الإرترية بالعنصرية والتشدد الإسلامى والفساد وذلك بعد أن كان من أبرز مناصيرها من خلال الكتابة الصحفية. فطيفور كان من اوئل الصحفيين الذن أسهموا فى تقديم الثوة الإرترية للعالم وقد غير بتحقيقاته الصورة التى رسمتها إثيوبيا للثوار الإرتريين بأنهم ليس أكثر من "شفته" قطاع طرق. لم يقدم أحد دليلاً واحداً على أن طيفور قبض ثمن كتابه بال "birr" الإمبراطورى، او ان الكتاب لم يكن من تأليفه حيث زعم البعض أنه تعرض للإبتزاز من قبل المخابرات الإثيوبية التى قيل أنها كانت تمتلك صوراً فاضحة تخصه واجبرته على أن يحمل الكتاب اسمه كمؤلِفٍ له. وعلى أىّ حال فإن الحقيقة القاطعة دفنت مع طيفور. ولكن المؤكد هو أن طيفور وقع ضحية عدم قدرته وضع معلوماته الثرة عن الثورة الإرترية فى بداياتها فى إطار صورتها الكلية كحركة سياسية عادلة هدفها تحرير سيادة إقليمها من السيطرة الإثيوبية بتركيزه على جزيئات تتعلق بنشاط الثوار لم يستعرضها كسلبيات قابلة للتصحيح فى مجرى النضال، كما إختار نشر اقاويل حول أن أهداف الجبهة الوليدة تتضمن ضم شرق السودان لأرتريا. *** إن الدعوة الى دولة سودانية بلا جهاز أمن قومى دعوة صبيانية؛ النقطة المهمة تكمن فى طبيعة الدولة ومنطلقها فيما يخص الأمن : هل هو حرص على حماية المصلحة العامة للشعب أم حماية مصالح الفئات الإجتماعية التى يمثلها الحكم المستبد. *** من غرائب الأخبار التى تتحدى المنطق فيما يخص العلاقات بين الدول هو مخاطبة مسؤول مصرى للحكومة السودانية موجهاً لها فيما يشبه الأمر، وكان السودان ضيعة مصرية، أن تتراجع عن قرارها الأخير بحظر إستيراد بعض المنتجات المصرية لأنه خطأ.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة