الإهتمام الرسمي والحزبي والشعبي الذي جرى به تقبل السودان لفاجعة وفاة المرحومة فاطمة أحمد إبراهيم الناشطة السياسية والإجتماعية والقيادية البارزة في الحزب الشيوعي السوداني ... أثار هذا الإهتمام السوداني الجامع فضول ودهشة وتساؤلات العرب والأفارقة والعالم الغربي ؛ بسبب الزخم والكم الهائل للحبر المُسال ونبضات الكي بورد التي صاحبت ولا تزال وستظل مصاحبةً لوفاة السيدة فاطمة أحمد إبراهيم رحمها الله وألهم أهلها وذويها الصبر والسلوان. هذا الإهتمام والزخم المشار إليه إن دلّ على شيء . فإنما يدل على أننا ينبغي أن نفخر دائماً بسماحتنا وتقديرنا لكافة مكونات المجتمع برجاله ونسائه .. وأن تقديرنا وتقييمنا وتثميننا لدور المرأة كفاعلة وشريكة للذكر بمثل حظه في جانب الحق في ممارسة حق المواطنة والبذل والعطاء والإنتماء والقيادة والحكم .... هذا التقدير لايأتي على الورق . وإنما نمارسه طوال أربعة وعشرين ساعة بلا تكلف ولا إصطناع أو لغرض أن نوهم الغير أننا (نجاري الموضة) ونعطي المرأة حقوقها. ولقد سبقت فاطمة أحمد إبراهيم في هذا التقدير الملكة النوبية أماني وأكثر من كنداكة ومهيرة بت عبود .. والباب لايزال مفتوحاً للمزيد. في العالم العربي لم نسمع من قبل بحالة إهتمام وطني شعبي مماثل لرحيل إمرأة ؛ سواء أكانت ناشطة سياسية أو إجتماعية بمثل ما جرى في السودان تجاه فقيدته فاطمة أحمد إبراهيم. في العالم العربي كان ولا يزال الإهتمام الرسمي الوطني الشعبي منصب على وفاة الراقصات والمطربات والممثلات لا غير ، وتحت ستار "يحيا الفـن"..... لم تشهد الساحة العربية سواء الكتلة الإسلامية منها أوالمسيحية إهتماماً على ذات الزخم والشاكلة التي وجدتها فاطمة أحمد إبراهيم في السودان .. لم تشهد هذه الساحة سوى إهتمامها بمناسبة وفاة المطربة أم كلثوم .... والمطربة صباح ... والممثلة سعاد حسني .... والراقصات بمبة كـشّـر وتحية كاريوكا.... ولعلنا لا ننسى هنا ريّــا وسكينـة. المناضلة الجزائرية "جميلة بوحيرد" التي ساهمت مساهمة مشهودة في تاريخ الثورة الجزائرية ضد المحتل الفرنسي حتى نالت بلادها إستقلالها. لم يعرف العرب بنضالها وإسمها إلا من خلال الفيلم السينمائي الذي حمل إسمها بإيعاز من جمال عبد الناصر – إنتاج 1958م - بطولة ماجدة وأحمد مظهر. ثم لم يكن معظم الجزائريون خاصة والعرب عامة يعلمون حتى نهاية الألفية الاولى أنها لا تزال على قيد الحياة . كانوا يظنون أنها ماتت وشبعت موت ... ولولا برنامج "من سيربح المليون" الذي جاء بإسمها في سؤال ثم تناول سيرتها بإختصار وأنها تقيم مع زوجها في فرنسا ؛ لما كانت قد بعثت إلى الحياة في ذاكرة العرب من جديد . ربما تظل مناسبة رئيسة وزراء الهند السابقة "أنديرا غاندي" هي الحالة الأكثر إقتراباً من حالة المرحومة فاطمة إبراهيم لجهة الإهتمام الرسمي والشعبي والوطني بها . مع فارق بسيط هو أن أنديرا غاندي قد جرى إغتيالها عام 1984م . وكانت آنذاك على رأس منصبها رئيسة للوزراء. وسبب الإغتيال هو إصدارها لقرار مثير للجدل بإقتحام المعبد الذهبي الخاص بطائفة السيخ. ولكن لا تزال المرحومة فاطمة أحمد إبراهيم تتفوق على أنديرا غاندي بسبب أنها وجدت هذا الإهتمام الإستثنائي من أبناء شعبها السوداني على كافة المستويات والتوجهات رغم أنها ليست رئيسة وزراء ، وليست زعيمة حزب حاكم وإنما فقط لكون أن الشعب قد توافق على أنها كانت صادقة أمينة مناضلة جسورة وغيورة يشار إليها بالبنان وستظل حالة فاطمة أحمد إبراهيم إذن تاريخاً ينبغي الحرص على تناوله والتعامل معه بكل الصدق والشفافية والأمانة. ونت أطرف ما يحكى عن جسارتها وشجاعتها (وهي خصلة تعجب السودانين) . أنها وفي قمة خوف أعضاء وكوادر الحزب الشيوعي من ملاحقات ومطاردات نظام نميري المستمرة لهم . وأصداء بطشه بهم عقب فشل إنقلاب 19 يوليو 1971م . تصادف أن تقابلت مع نميري وجها لوجه في إحدى المناسبات الأمدرمانية الإجتماعية . فسألها متهكما ويغمز لها بطرف خفي عن خوف الشيوعيين منه: - "فاطنة إنتي لسا شيوعية ولا الشيوعية طارت ليك من راسك"؟ فأجابته بسرعة بديهتها قائلة: - " أيـوة شيوعية .... وجزمتي دي ذاتا شيوعية ". والطريف أن نميري لم يتمالك نفسه من الضحك إعجاباً بشجاعتها أو ربما لأن طبيعة المناسبة لم تكن تسمح بغير ذلك وفق ما تعاهده السودانيين في تعاملهم مع بعضهم. نرجو أن لا يتمادى الحزب الشيوعي فيحاول العبث بحقيقة وواقع أن هذه الجماهير السودانية . بوجوهها الطيبة ووجدانها الإنساني ودماغها النقي الذي يميز الخبيث من الطيب . والتي خرجت كتفاً بكتف والحجل بالرجل وكحذوك النعل بالنعلِ إلى جانب جماهير الحزب الشيوعي لمواراة جثمانها الثرى بعد الصلاة عليه ... هذه الجماهير السودانية قد خرجت لأجل التعبير عن تقديرها وإحترامها الخاص لشخص وتاريخ فاطمة أحمد إبراهيم النضالي . وكونها بالفعل كانت دوغرية ولا تخشى في الحق لومة لائم ونقية القلب وشفافة الروح... وسودانية من قمة رأسها إلى أخمص قدميها. بعد إنتقالها إلى جوار ربها ؛ أصبحت المرحومة فاطمة أحمد إبراهيم أكبر من إبتسارها في حزب واحد أو ممارسة سياسية ... توارت فاطمة الجسد تحت الثرى وتبقى فوق الثرى قناعات أبناء شعبها بصدقها وحبها لبلادها . وإيمانها بقدرات المرأة السودانية نبراسا لكل أبناء الوطن. المرحومة فاطمة أحمد إبراهيم ستظل رمز المرأة السودانية بكل بساطتها وصبرها وقسماتها وعفتها وعفافها وعاطفتها وإرتباطها بمجتمعها.. وصيانة لنسيجه الإجتماعي من يورتسودان حتى الجنينة ومن حلايب حتى أبيي. ستتراكم المقالات والمؤلفات والدراسات ... وتعقد وتنفض الندوات عن شخصية ونضال وقناعات المرحومة فامة أحمد إبراهيم . وهذا أمر طبيعي .... ولكن الذي يجب أن نلفت إليه الإنتباه هنا هو أن لا يظن البعض أو فئة من الفئات . سواء في هذا المعسكر العقائدي والفكري أو ذاك .... لا يظن أحد من هؤلاء أنه بمستطيع أن ينفرد بها سلبا أو إيجاباً وحده. ويجيرها لمصلحته ولعرض وجهات نظره ؛ دون أن يجد من يتصدى له في جانب العدل والحق والوطنية الخالصة لوجه السودان وترابه الأغلى.... معطيات المعلوماتية ستمنع مثل هذه المتاجرات السياسية الإستهلاكية... وستحول دون نجاحها .. لا بل إنها ستؤدي إلى أن يفقد هذا المعسكر أو ذاك مصداقيته إذا حاول المتاجرة بها لمصلحته خاصة. الشبكة العنكبوتية تحفظ لقاطمة أحمد إبراهيم أكثر من لقاء تلفزيوني ومناسبة موثقة بالصوت والصورة تنفي عنها شبهة الكفر والإلحاد .... وهذا يكفيها . فهي ليست مجبرة على تقديم أوراقها الإسلامية وصكوك الغفران إلى من يطنون واهمين أنهم "وحدهم" ورثة النعيم كي يختموها لها بعد توقيعهم عليها. ثم أنه من غير الإنصاف والعقل أن يستهين البعض بقدر وقيمة المرحومة فاطمة أحمد إبراهيم في الوقت الذي يخفظ لها التاريخ أنها أول إمرأة يتم إنتخابها عضواً في البرلمان السوداني عام 1965م من خلال صناديق إنتخابات الزمن الديمقراطي الجميل. لقد تحملت المرحومة فاطمة إبراهيم الكثير . وناء عاتقها بحمل الثقيل من الأعباء وصادفت خطاها معيقات ومحبطات كالجبال . وفاق صمودها كل التوقعات حين رمتها الأقدار بوابل أحزان فراق زوجها لها معلقاً على حبل المشنقة. في 22 يوليو 1971م كان عمرها 35 عام فقط .. كانت متزوجة من الراحل الشفيع أحمد الشيخ رحمه الله الذي كان قياديا في الحزب الشيوعي السوداني خلال عصره الذهبي على أيام سكرتيره الكاريزمي عبد الخالق محجوب . وقد تم إنتخاب الشفيع أحمد الشيخ رئيسا لإتحاد عمال السودان الذي كان يضم 51 نقابة لاينفرد الشيوعي بالسيطرة عليها جميعها. وإنتخب أيضا نائباً لرئيس إتحاد العمال العالمي ... وحاز على وسام السلام من فرنسا ووسام لينين من الإتحاد السوفيتي ... في 19 يوليو 1971م ؛ بعد تأييده وتورطه السياسي في محاولة إنقلاب الحزب الشيوعي العسكري الفاشلة بقيادة الرائد هاشم العطا ضد الرئيس جعفر نميري . فقد تم إعتقاله وتعذيبه تعذيباً إستثنائياً قاسيا بشعاً قبل وبعد إصدار الحكم عليه بالإعدام شنقاً حتى الموت ... وعلى نحو تسامع به كل أهل السودان حتى بدا للبعض وكأنّ الأمر تصفية حساب شخصي وثأر بائت بينه وبين الضابط الذي أشرف على تعذيبه ... وقد قيل أنه سيق على عجل إلى حبل المشنقة وهو فاقد الوعي شبه ميت من أثر التعذيب الذي طال كل بوصة مربعة من جسده. وعلى الرغم من كل هذه الضغوط النفسية التي تعرضت لها وامتحنها الله بها في أقرب الناس إليها . إى أنها ظلت صابرة صامدة كعهد الناس بها دون أن تنهار. قد يتساءل البعض لماذا لم يتزايد الإهتمام بفاطمة أحمد إبراهيم إلا بعد وفاتها؟ من البديهي أن التاريخ لايبدأ تدوينه إلا بعد إنقضاء الحدث وإنقشاع الموقف ... طالما ظل الإنسان على قيد الحياة فإن عطاءه يظل قابلاً للتجديد ... وتظل أفكاره قابلة في أي لحظة للتعديل والتطوير إن لم يكن التغيير .... حتى مرضه ووفاته قد تأتي على نحو وحال لم يكن أحد يتوقعه. بعد الوفاة مباشرة يتحول الإنسان إلى كيان آخـر وحياة أخرى في العالم الآخر .. ويستمر وجوده كذكرى عائلية أو سطوراً في كتب تاريخ هذا العالم الزائل الذي غادره. مناسبة الموت هي أصدق مناسبة .. ولأجل ذلك يحرص المجتمع السوداني في قناعته الجامعة أن تكون محل توقير وإحترام .. ومواراة لجثمان لا حول له ولا قوة تحت الثرى لم يعد يملك من نعيم الدنيا أو خشاش أرضها شيئا .. لا بل حتى السرادق الذي يقيمه ورثته لأحله يدخل شرعاً في باب التصدق عليه ... ويسري الحال حتى على ملابسه المستعملة إن لم يكن قد بادر هو نفسه بتوزيعها على الفقراء في حياته. في مثل هذه المناسبة بشفافية التفكير في صدقها . كانت عائلة المرحومة فاطمة أحمد إبراهيم خاصة والشعب السوداني عامة .. كان الجميع يرجو أن تكون مهيبة ومرآة صادقة للتعبير عن حزن الفراق والأسى . وطلب الرحمة والمغفرة لها والمواساة والصبر والسلوى وحسن العزاء لأهلها ... ومناسبة لإجتماع كل الأطياف حولها . وتفرقهم بعدها بسلام. في مفاهيمنا الإجتماعية يظل الموت مناسبة لا يتم توجيه دعوة ضورها لأحـد . بل يجتمع فيها الكل دون إستثناء .. الأهل والقريب ، والجار والعـدو والصديق .. وعابر الطريق والغريب. في مناسبة الوفاة وإتباع الجنازة لدفنها يمشي الناس في صمت وسمت الوقار والوجل كأنّ على رؤوسهم الطير.... وكيف لا والموت هو خير واعظ . التصرف غير المسئول الذي قام به البعض القليل أثناء تشييع جنازة المرحومة فاطمة أحمد إبراهيم. وترديدهم هتافات خارج نطاق جلال المناسبة وهيبتها .. هذا التصرف لاقى إستهجانا عاما من الشعب . ولكن نحمد الله أنه ليس سمة الغالبية . ونحسبه طاريء سلبي من الواجب علينا محاربته بالتوعية والحسنى بما يحول دون إستمراره وتطوره إلى عادة قبيحة ووصمة . خاصة وأنه بذلك يؤدي إلى تشويه دواخل وتوليد ضغائن . ويزيد من إتساع رقعة الخلاف والفرقة... والتباين الغير محمود.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة