تصرخ غزة من شدة الجوع، وتئن تحت ضربات الحصار، وتلهث غزة خلف المعابر، تراقب المسار، وتتلهف لسماع الأخبار، ولما تزل غزة بشوق كي تطلق ساقيها للريح، لتزهو فرحاً فوق الغيم، يجللها العطر كصبح ترقبه الأزهار. ولكن غزة الجريحة الأسيرة ترفض أن تقايض كرامتها بلقمة خبز، أو فرصة عمل في المستوطنات الإسرائيلية، وترفض غزة أن تغمس ساقيها في مستنقع المذلة، وترفض أن تبيع طاقة أبنائها وقدراتهم الجسدية إلى عدوهم، لتصير وظيفتهم الرسمية عمالاً في المستوطنات الإسرائيلية، فيا للعار، كيف يدعي مسئول فلسطيني أنه يحارب الاستيطان اليهودي في الوقت الذي ينسق فيه مع إسرائيل آلية فتح بوابات المستوطنات للعمال الفلسطينيين؟ ترفض غزة أن تبيع شرفها الوطني في سوق التنسيق الأمني، فهي تعرف أن حصارها الاقتصادي له أبعاد سياسية، وتعرف أن الهدف من تجويعها وتقطير الماء في عروقها له مسارب الركوع على ركبتين متورمتين من العمل الذليل في المدن الفلسطينية المغتصبة التي صار اسمها "إسرائيل"، وصار الشرط لمن أراد الحياة على أرضها أن يكونوا خادماً لليهود، كما قال الحاخام الشرقي "يتسحاق يوسف" في درسه الديني يوم السبت بتاريخ 27/3/2016. ترفض غزة أن ترسل في كل صباح مئات الحافلات التي تقل أكثر من مئة وأربعين ألف عامل عربي فلسطيني من الضفة الغربية، ضيقت عليهم السلطة الفلسطينية سبل تحرير أرضهم، وصادرت حقهم في المقاومة، ليصادر عدوهم الإسرائيلي حقهم في العيش فوق أرضهم التي أطلق عليها بعد اتفاقية أوسلو اسم منطقة (c)، ليتغير معها اسم منظمة تحرير فلسطين ليصير منظمة تأمين المستوطنين، وتنظيم وصول الحافلات المحملة بالعاملات والعاملين، والمكلفين بتعمير المدن الإسرائيلية، وتنظيف شوارعها، وتنسيق الزهور في حدائقها، وزراعة حقولها، وتشغيل مصانعها، وصناعة القهوة للنساء اليهوديات، ومن ثم العودة إلى معازل الضفة الغربية محملين بسقط المخلفات، وبعض الشواكل المغمسة بالدمع والعذابات. غزة ترفض أن تقايض أرض فلسطين ببعض الشواكل الرخيصة، ولذلك حملت البندقية، وحفرت أنفاقاً للمقاومة، وهي تستعد ليوم تسترد فيه حق الشعب الفلسطيني كله في امتلاك أرض فلسطين كلها، وهي تعض على وجع اللحظة، وتسترجع الذاكرة الجمعية لسكان غزة قبل عشرات السنين، حين كانت غزة تذهب إلى المدارس حافية القدمين، وحين كانت تنتظر وجبة الإفطار من مراكز التغذية التابعة للأونروا، وحين كانت ترتجف من شدة البرد، ولا تجد تحت الخيام ما تستر فيه جسدها النحيل، ومع ذلك رفضت غزة الهزيمة، ورفضت السكينة، ورفضت أن تقايض الوطن فلسطين بالتوطين. حدثني وزير العدل السابق الأستاذ فريح أبو مدين قال: كان وضعنا المادي جيداً قياساً لبقية اللاجئين، وقد اشترى لي والدي حذاءً، فحين لبسته، ودخلت فيه المدرسة، صرت أعجوبة بين الطلاب، لقد التفوا من حولي، يتفرجون على حذائي، فأنا الوحيد الذي يلبس حذاءً في مدرسة مخيم البريج للاجئين، لذلك قررت في اليوم التالي أن أخفي حذائي في صريف الصبر على طريق المدرسة، وأن أدخل المدرسة حافي القدمين كبقية الطلاب!!. غزة المحاصرة لا تمشي حافية القدمين، ولما تزل تجد قوت يومها، ولما تزل تجد المأوى لأهلها، ولشعبها القدرة على التكافل الاجتماعي، والصمود لمئة عام أخرى، ولن تركع غزة أبداً، لأن فيها إرادة المقاومة قبل أن تكون فيها بندقية المقاومة. أحدث المقالات
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة