كان آخر ما سجله السنهوري في أوراقه بشأن السودان بتاريخ أول نوفمبر 1952. فقد كتب: «قرأت في إحدى الصحف نص الاتفاقية التي عُقدت مع المهدي والاستقلاليين، وأحمد الله أن الظروف حالت دون اشتراكي في وضعها، فيبدو لي أنها تتضمن تسليم السودان إلى المهدي، ومتى تسلم المهدي السودان فعليه أن يسلمه للإنجليز وإلا سلمه الميرغني». تثير هذه المذكرة العديد من الأسئلة نذكر منها: ما هي الظروف التي حالت دون اشتراك السنهوري في وضع الاتفاقية بين الاستقلاليين والحكومة المصرية؟ وما هي أحكام تلك الاتفاقية؟ وهل احتوت على حكم يقضي بتسليم السودان إلى السيد عبدالرحمن المهدي أو يلزم المهدي بتسليمه من بعد إلى الانجليز؟ وما هو سبب نقمة السنهوري على السيد علي الميرغني؟ للتمهيد لكل ما تقدم وكسياق عام ضروري ومفيد، أرى أنه من الأصوب أن أعرَّف القارئ بمشروع قانون الحكم الذاتي من حيث المنشأ وموقف الحركة السياسية السودانية منه تأييداً أو معارضة. أعزو ذلك لسببين أولهما: أن هذا المشروع كان أساس المفاوضات التي دارت بين الحكومة المصرية والاستقلاليين في اكتوبر 1952 والتي تمخضت عن الاتفاق الذي انتقده عبدالرزاق السنهوري. كما طُرح هذا المشروع في لندن في 11 اكتوبر 1952 خلال لقاءات عقدها وزير خارجية بريطانيا أنتوني إيدن في لندن مع وفدين استقلالي واتحادي. أما السبب الثاني فهو أن هذا المشروع بعد أن أُجيز كقانون قد لازم الحركة الدستورية والسياسية في السودان لبضعة عقود من الزمان. فقد إعتُمد المشروع بموجب إتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير المبرمة في 12 فبراير 1953 بين الحكومتين المصرية والبريطانية كدستور للفترة الانتقالية - أي فترة الحكم الذاتي الكامل - التي تسبق تقرير المصير. وقامت بتنفيذه حكومة إسماعيل الازهري التي وليت السلطة بعد اكتساح حزبها الوطني الإتحادي للانتخابات التي أُجريت تحت إشراف دولي في نوفمبر وديسمبر 1953. ونذكّر بأن إسماعيل الازهري هو القائل في معارضته لقيام الجمعية التشريعية ولتعديلها: «لن ندخلها ولو جاءت سليمة مبرأة من كل عيب». وكانت الجمعية التشريعية قد أجازت مشروع قانون الحكم الذاتي في أبريل 1952 ورُفع إلى دولتي الحكم الثنائي في 8 مايو 1952. ويمثل هذا المشروع المرحلة الأخيرة في التطور الدستوري لبلوغ السودان مرحلة الحكم الذاتي الكامل وتقرير المصير الذي أختطته الإدارة البريطانية في السودان وشارك فيه حزب الأمة وقاطعه حزب الأشقاء. ونضيف أنه في جلسة مشتركة عقدت يوم السبت 31 ديسمبر 1955، أجاز مجلسا النواب والشيوخ دستوراً مؤقتاً للسودان. وعن الظروف التي أدت إلى تقديم دستور مؤقت قال مبارك زروق زعيم الأغلبية في مجلس النواب إن ثمة عوامل أدت إلى ذلك كان أولها ملء الفراغ الدستوري الناتج عن انتهاء الفترة الانتقالية. أما ثانيها فقد كان الإسراع بالحصول على اعتراف مصر وبريطانيا باستقلال السودان. وعن مصدر الدستور المؤقت أوضح مبارك زروق أن أقصر الطرق في ظل هذه الظروف كان بتعديل قانون الحكم الذاتي بما يتفق مع قيام جمهورية ديمقراطية ذات سيادة في السودان، فحلت لجنة السيادة محل الحاكم العام، واستُبعدت السلطات غير الديمقراطية وأُجريت بعض التعديلات الطفيفة التي يستلزمها الحكم الديمقراطي. وقد تكفل بإجراءات التعديلات الثالوث القانوني: مبارك زروق زعيم الأغلبية ومحمد أحمد محجوب زعيم المعارضة وأحمد متولي العتباني المستشار القانوني للحكومة. وظل الدستور المؤقت سارياً إلى أن عطله نظام ابراهيم عبود في 17 نوفمبر 1958 بالأمر الدستوري رقم 3. ولكنه بُعث بعد ثورة 21 اكتوبر 1964 تحت مسمى دستور السودان المؤقت (المعدل سنة 1964) حيث تصدره ميثاق أكتوبر الوطني، ووصف الدستور المؤقت بأنه وثيقة تتضمن قانوناً أساسياً تحكم به البلاد أثناء فترة الإنتقال وتقوم بمقتضاه جمعية تأسيسية لوضع الدستور الدائم. ولكن الدستور المؤقت قُبر نهائياً بالأمر الجمهوري رقم 1 الصادر في 25 مايو 1969 عندما استولى جعفر محمد نميري على السلطة بانقلاب عسكري.
منشأ مشروع القانون في 29 مارس 1951 شكل الحاكم العام لجنة لتعيد النظر في جميع نصوص قانون المجلس التنفيذي والجمعية التشريعية لسنة 1948، والتي لا تختص بالانتخابات، وأن تقدم توصياتها لتعديلها بما يرفع من شأن الجمعية والمجلس، ويزيد في نفوذهما كأداة فعالة ديمقراطية ذات رقابه برلمانية كاملة في نطاق الاتفاقات الدستورية القائمة. عُين القاضي إستانلي بيكر رئيساً للّجنة وضمت في عضويتها عبدالله خليل وعبدالرحمن علي طه (حزب الأمة)، حسن عثمان إسحق وعبدالله ميرغني (حزب الاتحاديين)، الدرديري محمد عثمان وميرغني حمزة (حزب الجبهة الوطنية - وهما من أقطاب طائفة الختمية)، عبدالفتاح المغربي، محمد أحمد محجوب، محمد أحمد أبوسن، بوث ديو، إبراهيم قاسم مخير. قاطع فصيل من حزب الاتحاديين اللجنة كما قاطعها حزب الاشقاء وأصدر رئيسه إسماعيل الأزهري بياناً بتاريخ 20 يناير 1951 قال فيه إن حزب الأشقاء لن يقبل الجمعية في أي وضع من أوضاعها معدلة أو غير معدله ولو جاءت سليمة مبرأة من كل عيب. إنتقد بشير محمد سعيد هذا البيان نقداً لاذعاً جاء فيه إن المقاطعة عمل سلبي. والأعمال السلبية لا تحقق غرضاً إلا إذا اتفق السودانيون على اتخاذها. وجاء فيه كذلك إن المقاطعة التي يبشر بها ويعمل لها حزب الأشقاء منذ أمد بعيد هي مقاطعة جزئية. ومضى بشير محمد سعيد للقول: «إن حزب الأشقاء لا يؤمن بالمفاوضات ولا يريد التطورات الدستورية ولو جاءت سليمة مبرأة من كل عيب، ولا يمتشق الحسام، ولا يتبع أسلوباً معروفاً من أساليب الحرية التي انتهجتها الأمم، فماذا يريد؟ إن الكلمة الآن لحزب الأشقاء الذي ادعى لنفسه زعامة الحركة الوطنية وقيادة النضال للحرية. الكلمة له فليبعثها قوية واضحة وكفى الله المؤمنين شر الغموض والجهاد السلبي». عقدت لجنة تعديل الدستور أول إجتماع لها في 22 ابريل 1951 حيث استقر رأي الأغلبية على أن تنظر اللجنة في سمات الدستور قبل المسائل المتعلقة بالانتخابات. وفي الاجتماع الثاني الذي عُقد في 9 مايو 1951 قبلت اللجنة مسودة دستور تقدم بها أحد الأعضاء كأساس للنقاش. وبحلول 18 يونيو 1951 كانت اللجنة قد غطت كل سمات الدستور المقترح، وكان هناك اتفاق على معظمها. ولكن ثمة مسائل أثارت بعض الصعوبات ولذلك خولت اللجنة رئيسها القاضي إستانلي بيكر أن يستشير بشأنها أحد الخبراء في الشؤون الدستورية أثناء قضاء عطلته الصيفية في إنجلترا. وقد وقع اختيار إستانلي بيكر على فنسنت هارلو أستاذ تاريخ الامبراطورية بجامعة اكسفورد الذي رفع إلى اللجنة مذكرة إشتملت على تعليقاته واقتراحاته حول المسائل التي أُحيلت إليه وحول توصيات اللجنة الأولية بشكل عام. تسبب إلغاء الحكومة المصرية في اكتوبر 1951 لاتفاقيتي 1899 ومعاهدة سنة 1936 في اضطراب أعمال لجنة الدستور مما أدى إلى حلها في 26 نوفمبر 1951. فقد اخفق أعضاء اللجنة في تسوية الخلاف الذي نشب بينهم حول مسألة أيلولة السيادة على السودان بعد إلغاء مصر للإتفاقيتين والمعاهدة. وفي تاريخ حلها كانت لجنة الدستور قد أجازت السمات الرئيسية لقانون الحكم الذاتي ولكنها لم تبحث المسائل المتعلقة بالانتخابات. ورد في تقرير إستانلي بيكر عن عمل لجنة الدستور حتى تاريخ حلها أن بوث ديو وأعضاء آخرين في اللجنة أشاروا إلى أن الجنوبيين لا يزالون يتشككون في نوايا الشماليين ولا يرغبون في ان يعهدوا إليهم بادارة شؤونهم بدون ضمانات كافية للمصالح الجنوبية المشروعة. ولذلك ستكون مثل هذه الضمانات ضرورية إلى أن يحين الوقت الذي يكون فيه الجنوب في وضع يمكنه من ترقيه مصالحه من خلال التمثيل الديمقراطي العادي سواء كان ذلك في نظام موحد أو نظام فيدرالي. وقد اقترح هارلو في تقريره نظاماً للضمانات للجنوب يتمثل في إنشاء وزارة لشؤون الجنوب يُعين لها وزير جنوبي يكون مسؤولاً في مجلس الوزراء وفي الجمعية عن ترقية وتقديم تدابير لتحسين الأوضاع الإجتماعية والاقتصادية لأهالي الجنوب. ولمساعدة الوزير في ذلك إقترح هارلو تشكيل مجلس إستشاري لشؤون الجنوب يختاره الوزير بالتشاور مع مديري المديريات الجنوبية الثلاث. وضُمن اقتراح هارلو في التوصيتين رقم 9 و22 من توصيات لجنة تعديل الدستور. وفي إطار ضمانات الجنوب أيضاً إقترح هارلو إعطاء الحاكم العام سلطة حجب الموافقة على أي تشريع يرى أنه سيكون ضاراً بمصالح أو رفاهية أهالي الجنوب. وقد ضُمن هذا الاقتراح مع إدخال بعض التعديل عليه في التوصية رقم 22 من توصيات لجنة الدستور وأصبح المادة 100 من مشروع قانون الحكم الذاتي. وسيرد من بعد أن حزب الأمة قبل في الاتفاق الذي وقعه مع الحكومة المصرية في 29 اكتوبر 1952 حذف المادة 100 من مشروع قانون الحكم الذاتي مما أثار ردود فعل جنوبية غاضبة.
في حضرة أنتوني إيدن في 11 اكتوبر 1952 استقبل انتوني إيدن وزير الخارجية البريطاني بمقر وزارة الخارجية السيد عبدالرحمن المهدي الذي رافقه الصديق عبدالرحمن المهدي وعبدالرحمن علي طه. واستقبل لاحقاً وفداً يمثل الأحزاب الاتحادية تحت مسمى الجبهة الوطنية السودانية. لا مجال هنا لبسط القول حول كل ما دار في هذه اللقاءات بل سيقتصر هذا العرض على مواقف الطرفين بشأن مشروع قانون الحكم الذاتي والذي كان يُشار إليه أيضاً بدستور الحكم الذاتي. تحدث السيد عبدالرحمن في هذا اللقاء عن الفترة الطوية التي تعاون فيها مع حكومة السودان للنهوض بالتطورات الدستورية. وأوضح أن كان يهدف من وراء ذلك كله إلى استرداد سيادة السودان لأهله، ولقيام حكومة ديمقراطية مستقلة. من جانبه قال إيدن إن الدستور الذي وضع السودانيون جزءاً كبيراً منه يُعتبر بداية موفقة. أكد السيد عبدالرحمن عن ضرورة أن تكون الانتخابات مباشرة في كافة أنحاء شمال السودان إذا أريد للبرلمان أن يكون تمثيلياً. كما أبدى عدم ارتياحه لمواد مشروع الدستور المتعلقة بالانتخابات. وعن موقف مصر من مشروع الدستور قال إيدن إنه بالرغم من الشكوك المصرية في الماضي إزاء دوافع بريطانيا، إلا أنه من المفيد الحصول على تعاون المصريين لإنجاح الدستور. وأبلغ السيد عبدالرحمن أن الحكومة البريطانية تنوي التصديق على مشروع قانون الحكم الذاتي في المستقبل القريب. وأوضح أن هذا الإجراء سيجعل السيد عبدالرحمن أقل عرضة للضغط المصري بشأن أي تعديلات ترغب الحكومة المصرية في اقتراحها. تكون وفد الجبهة الوطنية السودانية الذي التقى أيدن من ميرغني حمزة عن حزب الجبهة الوطنية، ومبارك زروق ويحيى الفضلى وعلي أورو عن حزب الأشقاء (جناح أزهري) ومؤتمر الخريجين، والدرديري أحمد إسماعيل عن حزب وحدة وادي النيل، وخضر عمر ومحمد أمين حسين عن حزب الأشقاء (جناح نور الدين) ومؤتمر السودان. لم يمثل في الوفد حزب الاتحاديين وحزب الأحرار الإتحاديين. في بداية الإجتماع قال مبارك زروق إن الجبهة الوطنية غير مقتنعة بمسودة الدستور الحالية لأنها لا تعبر عن رغبات أغلبية السودانيين. وأشار ميرغني حمزة إلى أنه باستثناء حزب الأمة فقد رفضت كل الأحزاب السودانية الدستور. وذكر أن أحزاب الجبهة الوطنية شاركت في البداية في لجنة تعديل الدستور ولكنها انفضت عنها ولذلك فإن مسودة اللدستور، خاصة المواد المهمة المتعلقة بالانتخابات قد أعدتها حكومة السودان. لاحظ إيدن أن وفد الجبهة الوطنية يطلب منه الرجوع عن العمل الضخم والشاق الذي تم إنجازه. وأضاف أنه من الأنصاف أن يخبر الوفد أن الحكومة البريطانية تنوي التصديق على مسودة دستور الحكم الذاتي في المستقبل القريب. قدم الوفد لإيدن كذلك مذكرة بإسم جبهة الكفاح التي تشمل بالإضافة إلى من ذكرنا من الأحزاب حزب الاتحاديين وحزب الأحرار الاتحاديين. ذُكر في المذكرة أن جبهة الكفاح تسعى إلى إنشاء شكل من الاتحاد بين مصر والسودان يحفظ للسودانيين إستقلالهم الذاتي على أن تشرف هيئة مشتركة على المصالح المشتركة. وأكدت الجبهة رفضها لمسودة دستور الحكم الذاتي. كما أنها ستقاطع أي انتخابات تجري بموجبها في ظل النظام القائم في السودان وأنها ستقاوم أي محاولة لفرض الدستور. هذا ما كان في لندن في 11 اكتوبر 1952 ولكن بعد حوالي اسبوعين من ذلك تراجعت الأحزاب الاتحادية في القاهرة وقبلت بمشروع قانون الحكم الذاتي. أياً كان الأمر، فبوصول السيد عبدالرحمن المهدي إلى القاهرة في 20 اكتوبر 1952 كانت كل الأحزاب السودانية الشمالية ممثلة في القاهرة وغُيب الجنوبيون. وبدأت المفاوضات التمهيدية بين الإستقلاليين والحكومة المصرية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة