لما كان الواقع في ماضينا و نحن أطفالاً أو في بواكير الصبا يسمح بالحلم و التمني من حيث المبدأ ، كنا لا نتورع و نحن من أبناء الطبقة المتوسطة أو دونها إذا سُئلنا عن ما نبتغيه في مستقبلنا الواعد أن نطلب الأعالي و أسمى ما يمكن أن يدور في مخيلتنا ذاك الأوان ، لم يكن مستغرباً أن يكون الطبيب أو المهندس أو العالم أو الثري ( بالحلال ) ذا أصل قروي أو منتسباً إلى طبقة الفقراء و عامة البسطاء الشرفاء الذين يكدحون طالبين الحلال في وطنٍ كان له مذاقه الخاص في ذاك الزمان الذي ليس هو ببعيد ، بل و للحقيقة كان أكثر الطلاب تميُّزاً على المستوى الأكاديمي هم من أبناء الطبقات الوسطى و الدنيا ، ثم بعد ذلك أصبحوا أعلاماً في مجالاتهم المختلفة بل سموا إلى مقام المبدعين و المجددين في تخصصاتهم المختلفة ، و لم يكن ذلك وليد الصدفة و لا كان لصفات إنسانية و سلوكية ميَّزت ذلك الجيل دون غيره ، لكن سياسات الدولة العامة في ذلك الأوان كانت مؤسسة على مبدأ العدالة الإجتماعية مما إنعكس على كثير من مناحي الحياة العامة بإتجاهاتها المختلفة و في مقدمتها التعليم ، فقد كان التعليم وقتها مجانياً على وجهٍ حقيقي و ملموس لا يقبل الجدل ، و كانت كل مجهودات الدولة الفنية و المادية و الإدارية موجهة توجيهاً أساسياً لدعم ( العملية التربوية الحكومية ) .. بعكس ما يحدث الآن من دعم قانوني و لوجستي للتعليم الخاص الذي إتسق مع النمط ( التجاري ) العام الذي أصاب مقدَّرات و مؤسسات الوطن في مقتل في أيما إتجاه ، كان إبن الحاكم يجلس مع إبن الغفير و إبن الموظف البسيط في نفس ( الكنبة ) و تحت نفس السقف الذي كان يضم كافة أجناس و قبائل و أديان السودان ، فتربى جيلنا منذ نعومة أظافره على ( قبول التعددية ) و التواضع للجماعة و الكسب بما تنال اليدان ، كان بيننا أبناء الأثرياء الذين يُشار إلى ثراءهم بالبنان ( و الذين كانوا في ذلك الزمان لا بد أن يكونوا تجاراً ) .. عكس ما ساد الآن ، فالأثرياء و أصحاب الأموال صاروا كبارموظفي الدولة و قادتها السياسيين و من تم تمكينهم من النفوذ و السلطة بالولاء و الطاعة العمياء دون الكفاءة و الإستحقاق المهني ، كانت مجالات الظلم و عدم تحقيق العدالة في كثير من المناحي معدومة أو فلنقل في أضيق حدودها ، الآن إنبنت الإتجاهات النفسية و التربوية و السلوكية لدى أطفالنا و شبابنا على مبدأ ( التمايز الطبقي ) في مسائل لا يُحتمل فيها هذا التمايُّز من باب المصلحة الوطنية الكبرى ، لأنهم نشأوا على ذلك عبر (سمو ) التعليم الخاص على العام ، لينقلب المفهوم القومي للتعليم بما يخدش مبادئاً سامية أصبحت للأسف شعارات و في مقدمتها ( مجانية التعليم ) و ( عموميته ) .. فرغم الظروف الإقتصادية التي يعانيها الناس إلا أنهم أصبحوا مضطرين للسير في خضم ( تجارية التعليم ) خوفاً على مستقبل أبنائهم ، و كأن وزارة التربية تنفض يديها من إلتزاماتها تجاه التعليم العام لمجرد توفر البديل المسمى بالتعليم الخاص و الذي كان في زماننا لا يؤمه إلا من فشل في الإنتساب إلى تعليم حكومي ، الوحدة الوطنية و التعايش السلمي و التمازج الثقافي لا يمكن أن يُبنى و يُمنهج إلا عبر مؤسسات التعليم التي تتحكم الدولة في أدواتها و بيئاتها وسياساتها ، و مهما علا مبدأ ( التحرير الإقتصادي العام ) عند مَن يروجون له .. لابد من رسم خطوط حمراء في تطبيقه حتى لا يهدد المصلحة الوطنية العليا و في مقدمة تلك الخطوط الحمراء التعليم و الصحة و الضروريات الإستهلاكية اليومية للمواطن العادي .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة