المبدعون لا يخافون من الموت.. لذلك يعطون حتى آخر لحظة في حياتهم.. فهم مهما عاشوا يبدون شباباً.. هكذا كان هيكل برغم انه تجاوز التسعين من عمره، الا انه ظل ذاكرة شابة، ذاكرة حية.. ذاكرة منحته التميز والتقدير والاحترام، ليس في مصر الشقيقة، بل في كل الوطن العربي، بل في كل العالم ..! رحيل هيكل الكاتب الصحفي الكبير، هو فقد عظيم لمصر والامة العربية والعالم، لانه كان ذاكرة عالمية ضخمة.. هيكل الانسان، قد يختلف حوله البعض.. وهذه سنة الحياة، لا أحد بلا اخطاء.. الا الأنبياء.. لا احد من الناس يتوفر على الكمال...!!! اما هيكل الثراء الفكري والعطاء العلمي والثقافي، فهو رقم ليس ككل الأرقام.. لانه أراد لذاته التميز من خلال العطاء.. هيكل مثله لن يتكرر قريباً، رغم ان مصر الشقيقة، قد أنجبت العمالقة، بدءاً من احمد شوقي، أمير الشعراء، وطه حسين، والعقاد، ونجيب محفوظ في حقول الأدب.. ، وبطرس غالي الذي شغل ارفع المناصب في المؤسسات الدولية.. وفي مجال العلم، فاروق الباز، واحمد زويل، وغيرهم من العمالقة.. الا انه في تقديري، مصر والامة العربية ستنتظران، طويلاً، حتى من يملأ احدا الفراغ الذي خلفه رحيل هيكل.. رحيل محمد حسنين هيكل، هو نضوب ذاكرة كانت ناصعة.. ذاكرة ظلت تعطي حتى لحظة آخر في حياتها.. يا لها من ذاكرة.. ذاكرة حية وملمة بكل الأحداث وتفاصيلها..! ذاكرة لم تخذل صاحبها رغم انه، تجاوز التسعين عاما من العمر.. الا أنه حينما يتحدث صاحبها يشعر من يتابعه انه في عز الشباب... هذه تميز بها هيكل، فشكل ظاهرة فريدة من نوعها.. لن تتكرر قريباً...، فهو كان قلما وذاكرة، ولساناً وبياناً.. لذا شكل رحيله فجيعة في عالم الثقافة والفكر والكلمة.. هيكل كان دوماً حاضراً وفاعلاً وناقداً ومحللاً وكاتباً ومتحدثاً بليغاً.. الحكمة تجري على لسانه، حينما يتحدث عن الماضي، يشعر سامعه ومشاهده ان الماضي حاضره أمامه بأحداثه ووقائعه وشخوصه ورموزه...!!! من غير هيكل يستطيع ان ينهض بهذا العبء الكبير..؟ هيكل كان وطنياً في انتماءه، وقومياً في تطلعه، وعالمياً في ثقافته.. فجمع كل عناصر التميز والاعجاب، لانه كرس حياته لغاية سامية وهي حمل لواء الكلمة.. فتميز في فيها.. تميز في الكتابة، جسدتها غزارة مؤلفاته في شتى المجالات، حملت عناوين متعددة بتعدد القضايا والموضوعات التي كتب فيها... هيكل تميز في التوثيق من خلال لقاءاته مع رؤساء ووزراء خارجية الدول الفاعلة في المجتمع الدولي. اتسم بالدقة والتميز في التحليل وصدق التنبؤات.. ان أسلوبه في الحياة، هو الأسلوب الذي يطلق عليه في الأدب: "السهل الممتنع" فمن يقرأ كتبه ومقالاته وتحليلاته يلحظ انها تتميز بالرصانة، بلا تقعر ولا تعقيد، لغته سلسة ورشيقة، كل عطاءه يسيل في عالم المعرّفة، كما يسيل الماء الزلال في الساقية خالياً من الشوائب، يسقي الزرع ويستدر الضرع.. كل عمل من اعماله لوحده تميز بالدهشة والروعة، واعماله كلها مع بعضها البعض فهيد الإعجاز والسحر والجلال. نعم، الموت قد غيب هيكل النفس، وكل نفس ذائقة الموت.. الموت مصيبة..! لكنها تعظم في عيون الصغار، الذين لا هم لهم إلا التمتع بقشور الحياة، لكنه حادث طبيعي عند المبدعين المشغولين بالشؤون الكبرى ... وهيكل كان من هذا الطراز، من المبدعين.. فما كان يعنيه كثيراً، امر الموت، لذا ظل طوال حياته، محافظاً على شبابه وأناقته، كأنه في زمن جمال عبدالناصر.. الموت عنده، كان ظاهرة طبيعية، كما الولادة..!!! لذلك نقول: ليس حقاً ان كل من حمل على النعش وسار الى المقبرة على اكتاف الرجال وتوارى في ظلمة القبر إنقطع عمله..!!! ان الذين ينقطع عملهم هم الخائفون الذين يظلون حياتهم يفكرون في الموت فتذبل ارواحهم وعقولهم وهم في عز الشباب.. فقراء العقول الذين يمضون حياتهم على سطح الارض أنانيون ... الذين يفكرون في بطونهم.. الذين يتعاطون مع الحياة بشهواتهم، الذين يرتقون في الحياة على حساب جماجم أبناء وطنهم وامتهم.. اما المبدعون أمثال الراحل هيكل الذي عاش رشيقا في جسمه، ضخماً في عقله وروحه وذاكرته، فموتهم لا يعني موت ارواحهم وافكارهم وعطائهم ، الموت في هذه الحالة، هو موت فقط للجسد.. لانهم أعطوا الحياة ما هو لها، وهذا ما فعله هيكل الانسان، أعطى الحَيَاة كل ما عنده، والشاهد مؤلفاته ..!!! نسأل الله له المغفرة والرحمة.. وتعازينا لمصر الشقيقة..! ان الخلود، ليس خلود الاجساد وإنما خلود الأرواح والأفكار التي تقيم لصاحبها تذكاراً في قلوب وعقول الناس.. وتنحت لها تمثالاً، من صخور الدهر...! الطيب الزين
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة