تسمرت أعين دكتور صلاح الحاج وهو يطالع قائمة مرضاه الذين سيجري لهم عمليات في ذاك اليوم في مشفى لندن التعليمي ..القائمة قصيرة جداً تبدأ بعملية قلب مفتوح وتنتهي بعمليتي قسطرة..لم يتمكن مستر صلاح أن يقلب الصفحة..بدأت يده ترتجف قليلاً..هل المريض هو علي الشفيع المعروف أم أن الأسماء فقط تتشابه..ملاحظة أدنى الصفحة تقول إن المريض يعتبر شخصية مهمة (VIP ) ..ليست هنالك تفصيلات كثيرة..المعلومات الأخرى من عمر وربما وزن تؤكد أن المسؤول ليس سوى الوزير السابق. ترك جراح القلب الأوراق وطلب عبر الهاتف الداخلي حضور رئيسة فريق الممرضات..جاءت كرستينا على وجه السرعة..قبل أن تتحدث أشارت إلى معصم يدها الممتلئ لتشير لعامل الزمن..حينما رأت الممرضة معالم وجه الجراح في غير طبيعتها المعتادة اقتربت منه بشكل ودود .."أريد معلومات إضافية عن هذا المريض"..لا أقصد معلومات طبية أريد أن أتأكد إن كان هو ".. قبل أن يكمل الدكتور صلاح عباراته الغاضبة قالت كرستينا: " أعتقد أنه سوداني مثلك". الآن تأكد لدكتور الحاج أن المريض المعني ليس سوى الوزير السابق بحكومة بلاده..في هذه اللحظة بلغ التوتر مرحلة قصوى..خلع الدكتور الرداء الأبيض وقال للممرضة "أنا في ظرف نفسي لا يجعلني قادراً على العمل"..اقتضى ذلك الاعتذار إعادة ترتيب الأمور وتحويل الجدول إلى أطباء آخرين. شعر دكتور صلاح أنه بحوجة لتدخين سيجارة رغم أنه أقلع عن تلك العادة السيئة منذ سنوات طويلة جداً..كما أن قوانين المشافي تمنع ذلك.. أغلق الجراح باب المكتب ثم تناول قرصاً طبياً مهدئاً ..تمدد على الأريكة بجسده المنهك، ووضع يده على عينيه..كأنه يحاول ألا يبصر تلك المشاهد..كان طبيباً مثالياً وأستاذاً بالجامعة ..حياته تتوزع بين كلية الطب والمستشفى الجامعي ..رغم تخصصه النادر إلا أنه لم يكن يملك عيادة خاصة ..فلسفته في الحياة ألا يأخذ منها إلا ما تقتضي الضرورة..لم يكن متديناً ..يعيش وحيداً و لا ينام إلا بعد أن يتناول شيئاً..رغم ذلك كان نموذجاً لطلابه وزملائه. بدأ اليوم عادياً قبل خمسة وعشرين عاماً..شعر دكتور صلاح أن حرارة عربته الروسية القديمة أعلى من اللازم..ركن السيارة عند ورشة تربطه صداقة بمالكها..أوقف عربة تاكسي حتى لا يتأخر على المحاضرة الصباحية..حاول أن يضع ساندوتش الطعمية والمرجع الطبي الذي يحمله دائماً في المكتب قبل أن يتوجه لقاعة المحاضرات..عند بوابة المكتب قابله بانزعاج عميد الكلية..دفعه بسرعة إلى داخل المكتب الصغير..كان البروفيسور الزائر مضطرباً وهو يبلغ دكتور صلاح خبر الاستغناء عن خدماته من أجل الصالح العام..الذي لا ينساه أبداً أن الخطاب مزيل بتوقيع الوزير علي محمد الشفيع ..أغلق باب المكتب ثم خرج..كان يتجول في شوارع المدينة دون أن يدرك إلى أي عنوان يهتدي . حينما انتهى مشوار الذكريات جاءت لحظة الحاضر..هل امتناعه عن تقديم خدمة طبية لمريض لأسباب خاصة جداً أمر يجافي أخلاقيات المهنة..صوت آخر يخبره أنه إنسان له مشاعر..مشاعره الحساسة جعلته يعيش عازباً طوال عمره بعد أن تعرض لخيانة حبيبته..ليس هنالك حرج في الامتناع عن تقديم خدمة لمثل هؤلاء الناس الذين جعلوا الوطن ضيقاً..فيما هو متنازع رن الهاتف الجوال ..جيمس براون الجراح يسأله إن كان قريباً من المشفى .. حينما علم أنه مازال بمكتبه أنهى المناقشة بعبارة احتاج مساعدتك الآن..لم تمض سوى أربع دقائق حتى التقى بوجه من الماضي غائب عن الوعي قريب من القبر. بعد أربع ساعات انتهت العملية بنجاح..خرج دكتور صلاح متعجلاً وقبل أن يفيق مريضه من التخدير ..عند نهاية المصعد كانت زوجة المريض وابنته في انتظار الدكتور لمعرفة نتيجة العملية..حاول أن يتفادى المواجهة وأن يتحدث بلسان إنجليزي..ابنة المريض أخبرته أن والدها كان يعرف عمله بالمشفى ولهذا أصر أن يتعالج هنا..شعر صلاح الحاج أنه سوداني فعاد برفقة الزوجة والابنة إلى مكتبه..حينما أفاق المريض من التخدير التقت ذات الأعين كانت كل منها تحمل دمعة أسف وحسرة وحب . assayha
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة