كانت اللغة شاهداً من شواهد الصراع بين ذوي السمت الديني والسياسيين، إذ توحي أقوال الصوفية بأجواء ذلك الحال الصاخب وهم يلجأون إلى (القوى الروحية) في منازلة السلطان. وقد تتجاوز لغة بعضهم عبارات الغضب واللعن والدعاء على السلطان، إلى اتخاذ موقف العناد واللا مبالاة بالسلطة القائمة كما جاء في وصف ود ضيف الله للشيخ عبدالله ود العجوز، الذي كان (يفعل ما يشاء) غير آبه بسلاطين زمانه. كان بعض الأولياء، لا يكاد يعترف بالحاكم، وقد ورد على لسان الشيخ محمد ولد دوليب قوله: (أنا بلا الله والرسول وكتبي.. ما بعرف أحداً).. مثل هذا التحدي تجد له أطواراً من التنافُر بين طرفي النخبة، قد يشتعل حرباً تخسرها السلطة بالضرورة، إن تورطت في قتل أحد الأولياء، لأن مجتمع السودان قد تعارف من قديم، على أن (قتل الولي يمحق الحاكم). هناك عقيدة بأن قتل الولي للحاكم كما لو أنه البشارة، أما قتل الحاكم للولي فإنه نذارة بالخراب، لهذا كانت البطانة تحذر السلطان من سفك دم الشيخ إسماعيل صاحب الربابة وتنصحه بالصبر على جرأته وعباراته القاسية عليه، وألا يقع في المحظور، وحين هم بقتله قالوا له: (بتقتل ولد شيخنا؟ ولداً غرقان سكران وبطران، دمه يخرِّبنا).. أنظر الطبقات، ص (95).. مثل هذه النصيحة لم يكترث لها السلطان بادي أبوشلوخ، فمات في سجونه الشيخ حجازي حفيد ود الأرباب، الذى لم تشفع له نصاعة نسبه ومكانة جده من الهلاك جوعاً وعطشاً في قاع السجن الظليم.. أنظر: أحمد بن الحاج أبوعلي كاتب الشونة، مخطوطة كاتب الشونة في تاريخ السلطنة السنارية والإدارة المصرية، تحقيق الشاطر بصيلي عبدالجليل، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة/ 1961م، ص (24-26).. كما أن أبو شلوخ تورط في قتل الشيخ الخطيب بن عمار، فكانت النهاية، وكان على شبه بمحنة جعفر النميري بعد اغتيال الأستاذ محمود محمد طه. والتشابه لا ينفك، بين جعفر النميري وبادي أبوشلوخ في أن الشلوخ ميزت وجهيهما، وفي أنهما جُرِدا من السلطة مطرودين بلعنة الجماهير.. كان أبو شلوخ قد مهّد الطريق أمام الهمج، للتغلغل في نظامه السياسي حتى أصبحوا (دولة داخل الدولة).. نفس الشيء ــ تقريباً ــ فعله النميري الذي مهد الطريق للإخوان المسلمين ــ همج العصر الحديث ــ كي يتغلغلوا في مفاصل الدولة بعد المصالحة الوطنية، في معنى أنه استبدل ولاء مؤيديه ببطانة كانت تكيد له، حتى تمكنت بالفعل من الإيقاع به حين عزلته من تنظيمه، ومن (المنظمات الحزبية والفئوية).. نفس المعنى ورد في الطبقات عن أبو شلوخ، بأنه (أخذَ من أهل الأصول أصولهم)، في معنى أنه (صَادرَ وأمَّمَ) الممتلكات كما فعل النميري في بداية السبعينيات. وللمفارقة، فإن النميري أُقصِيَّ من السلطة في السابع والعشرين من مارس 1985م وعاش منفياً بمصر، بعد تنفيذه حكم الإعدام في زعيم الجمهوريين محمود محمد طه، وكذلك طُرِد أبوشلوخ إلى خارج السودان في 27 مارس 1672م، بعد قتله للخطيب بن عمار!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة