السفر الي دار الزغاوة له مذاق خاص، يتلاقى فيه الشعور بالرهبة و الامل، الخوف و الرجاء، رهبة من وعثاء السفر و وعورة الدرب وما يخبئه من خطوب و إحن و املا في العودة الي الديار حيث الاطلال و الدمن الاهل و الاحبة و الاقارب و الجود و الكرم . حزمنا امتعتنا بعدما هزمنا الهواجس، وسرنا برا عبر الدروب المتلوية كدروب الثعابين، فوق الكثبان الرملية الممتدة على امتداد الطريق. الطريق بين الفاشر و كتم و عبدالشكور، السفر فيها كالمشي على حقل من الالغام، يحفها المحن و الخطوب من كل حدب وصوب، الميلشيات المسلحة تموج على الدراجات النارية كموج البحر، ترمي المسافرين بنظرات لا تبشر الا السوء، تعترض طرقهم، تنهب ،تضرب، انهم شباب ملثمون، عبث الخمر بعقولهم، و ذهبت المخدرات باحلاقهم و باتوا يلهثون عن المال غير ابهين بالثمن، او اي قيمة للانسان ، لا قوانين ولا سلطات تردعهم او ادين او اخلاق او ضمير تحرضهم لاجتناب الموبقات المرتكبة بحق اولئك الابرياء الراغبون في العودة الي الديار. الا انه و خلافا لما يلعق به اجهزة الاعلام الفاسدة، او الالسنه التي لوثتها ريع المصالح القذرة، الاجواء في دار الزغاوة مختفة، فمنذ من وطأت اقدامنا تلك الرمال الطيبة، الجميلة، تبددت الهواجس و سكنت الهدوء و الطمأنينة نفوسنا، وعلى اعتاب ابواب تلك الديار غابت الشمس و رحلت معها الهواجس و القلق، هناك اوقدنا النيران، لنقي انفسها من ويلات الشتاء القارص، تفشعر لها الابدان، وتناولنها وجبة دافئة، من لحم الخراف الزغاوية من فض كرم الرعاة ، ثم استسلمنا لنوم عميق في هدوء لا يسمع منها الا همس النسيم و صفيف الاوارق و صرصرة الصراصير او شخير الزملاء الذين انهكهم وعثاء الطريق.
هجونا هنا على مقربة من قرية انقيتي الشهيرة تقبع على اسفل جبل صغير بين اورشي و ابو ليحه، الجميع يعرف تفاصل تلك القرية، التي بقت طلاسمها بارزة متحديا كل ظروف القاسة منذ حقب من الزمان، كان تلك القرية الصغيرة تعج بالناس، حيث كا نت محجا للمرضى، او مصحة للذين مستهم شيئ من الجنون، هناك يتلقون العلاج عند امراة حكيمة فاقت شهرتها الافاق. عرجنا من هناك نحو مدينة امبرو، و دخلناها باكرا هناك تخلف بعض الزملاء، ثم مررنا بكرنوى، و خزان باساوا قبل ان نلقى عصا الترحال في الطينة محطتنا الاخيرة، هنا تخالجنا شعور متناقض بين الفرحة و الحزن و السرور و التآسى، فرحة العودة الي الديار وحزنا لما ألت اليها الامور هناك، امبرو و كرنوي و الطينة مدن منكوبة بمعنى الكلمة، هجرتها اهلها، و سكنتها الخراب و الدمار و العبث و الفوضي، سويت البيوت بالارض، وتطايرت اسقف المدارس او قلعتها الملشيات ، المآذن اختفت، باستثناء مسجد الطينة ، حيث ينعق على مآذنها الغراب و يرتادها الخفافش عندما يسجو الظلام ثم يسكنها البوم عند وجه النهار. ماتت الحياة في شرايين المدينه الخربة، الا من بعض الغرباء الذين سكنوا جنبات المدينه، لا ماء و لا نار ولا طعم و لا رائحة غير رائحة اخذية الجنود و البيوت العتيقة، باستثناء بعض الابنية بالوان خضراء زاهية ،هنا وهناك شيدت حديثا من دور الحكومة و بيوت السلطان، اما سوق الطينة يرقد بهدوء على الجانب الشرقي من وادي ابوسند، يرتادهاء الغرباء و الحالمين بالعودة وتجار من ابناء المناطق المجاورة وحثى فتيات من الحبشه وجدن حظهن من خيرات تلك البلاد.
هناك ،ادم منصور دوسة هو ابن السلطان طينه، يعد رجل اعمال ناجح، عاد الي ديارة بعد غياب دام سنوات، باشر اعماله من متجره القابع في وسط سوق طينه ، الجميع يحترمه والكل يقدرة، يتسم بهدوء و تواضع نادرين، بعقلية متقدة ويتفهم الامور بعمق ويعالجها بحنكة يحسد عليها، يحترمه الجميع لجوده وكرمه الفياض وبشاشه وجه التي لا تفارق الابتسامة لحظة واحده، في متجره يموج الزوار، اشبه بركن للنقاش للتفاكر حول القضايا الملحه، جلسنا اليه وقلبه يفطرحزنا لما آلت اليها الاوضاع هناك، مبديا اصرارا منقطع النظير لمجابهة الظروف القاهرة للبقاء، يحدوه الامل في ان تنقشع الغيوم وتصفو الاجواء ومعها النفوس كي تعود المياه الي مجاريها القديمة و تعود الامور الي سيرتها الاولى، لو قدر ان يكون لهذا الرجل دورا تنفيذيا لاستطاع ان يلم طرفي الليل والنهار، و ان يعيد الامور الي نصابها ولكن يبقى دوره هامشيا ما دام هنالك اشياء تريد ان تبقيه بعيدا هناك في الظلال.
في قصر السلطان العتيق، وداخل ديوانه الكبير، هناك استنشقنا عبق التاريخ، صور و شهادات و افادات، و مخططوطات معلقة على الجدران، صفحات تزيح الغبار عن قصص و روايات تحكي عن ماض تليد، ومجد واصالة الاجداد مقروءة بين السطور. كنا جلوسا نتوسط سلطان منصور سلطان داركوبي و ضيفه سلطات محمد حسن سلطان دار كبكا، كنا في حضرتهم ، واسبهنا في الكلام ، وتبادلنا الافكار، دون حواجز او هواجس ،حول ما ينبغي وما لا ينبغي ، حدثونا عن اشياء جميله وعبارات جادة، جديدة بالنسبة لي ، اما عند المواطنين الذين لاقيتهم، انها اشياء مكررة، رتيبه ، لتصف مدى انهيار جسور الثقة بين الاطراف ، بين الراعي و الرعية، بعدما حل الخوف و الدمار مكان الامن و السكون، وقتها عبرت المواطنون غربا عبر الحدود و ختاورا الانذواء في معسرات اللجوء ، عاشو تحت رحمة المنظمات، بينما عبر الادارات الاهلية غربا و انحازوا الي النظام ، واقتاتوا من موائد السلطان، اذا رأيتهم تعجبك اجسادهم ، وبات مساحات شاسعة من عدم الثقة تفصل بينهم واهلهم كمساحات بين الخرطوم و دار زغاوة، وهنا نذكر للتاؤيج ان سلطان طنطباي سلطان حسن برقو الملقب بالحسن (البصري) هو الوحيد من زعماء الادار الاهلية الذين آثروا البقاء بين اهلهم ، وتقاسم معهم البرد و الجوع، الخوف و المرض، مقاوما كل الاغراءات للعودة الي الخرطوم، هناك قضى نحبه وفي نفسه شي من حلم لم يكتمل ،حلم العودة الي الديار، المهم في هذه المرة ابدت الادارات الاهلية شئ من الجدية، قرأتها في اعينهم، و في افكارهم المبتكرة في معالجة الوضع في حدود امكاناتهم المتواضعية، ومن عيونهم اللاهثه عن الامل و الرجاء، نحو ابناء المنطقة المنشرون في اقاصى الدنيا، ان يمدوا اليهم باسباب الحياه و العودة الي الديار، كما ينتظرون دورا من ابناءهم لاقناع الاهل للعودة لتعمير الديار، انهم يرغبون ان تكتب صفحة جديده بخطوط عريضة تطوي مسافات عدم الثقة و تمحو الهواجس و الظنون ، بعقد جديد تقوم على اساس الحب ، و الاحترام و العدل و المساواة، اساس مدعوم برغبة التعمير الارض و النظر الي المستقبل بنظرات واثقة.
شهِدنا هناك معركة تدور بعيدا عن الاضواء ، معركة تجري رحاها في غير معتركها ، على الاقل في هذه الاوقات، معركة بين الادرارات الاهلية من جهة و بين السلطات التنفيذيه من جهة، كل يريد ان تمسك الامور بيدها، الادرات الاهلية تريد ان تعيد مجدها المفقود و القيادات التنفيذية تريد ان تبني امجادها على اطلال الادارة الاهلية المتداعية ، وكل من الطرفين يفتقر الي اداوات الكافية، لحسم جولة لصالحها او اعادة الناس الي الديار، او تعمير الارض، ذلك مع تراخي حبائل الثقة بينهم وشعوبهم ، خاصة بعض المعتمدين الجدد يعوزهم الخبرة و الحكنة في التعامل مع الناس هناك، فهم ما زالوا متوهمين او مدفوعون بالعقلية الاقصائية القديمة، فهم لا يعجبهم جهود ابناء المنطقة العائدون من الحركات او حتى يتخوفون و يرتجفون من شعارات الاحزاب الاخرى الي رفعت ابان الزيارة، مع انهم يعلمون انه من العسير اقناع احد هناك ليرفع شعارات تمجد النظام الذي تراه الناس سبب البلاوي و المحن التي لحقت بهم، فيجب الكف عن هذا النهج من التفكير المتقزم ، و العمل سويا مع الاخرين، خاصة الذين يحظون باحترام و تقدير من اهل المنطقة، ما دام الامر يتعلق بتنمية المنطقة و رفاهية الناس.
منطقة دار الزغاوة ، تم اقصاءها مع سبق الاصرار و الترصد، من كل برامج التنمية في الماضي و الحاضر، خاصة السنوات الاخيرة حتى بعد ان رحلت عنها العمل المسلح، وبدا الهوء تدب في اطرافها، الا ان التقارير الرسمية تتعمد في رسم صورة قاتمة، تلقي بظلال داكنة غلى تلك الارجاء يصعب معه معرفة الحقيقة على الارض، لكن ما لم يمكن انكاره ان التنمية انداحت في اجزاء اخرى بدارفور، تشهد فيها الاوضاع الامنية اكثر قتامة و تعقيدا لما هو عليها في دار زعاوة، انها حقيقة ، اسوق على سبيل مثال لا الحصر، ان القرية النموذجية التي بنيت على اطلال قرية طابت، كا نت من نصيب مدينة الطينة، الا ان تقارير الامنية المتعمده من فوتت عليها الفرصة، و الجميع يعلم علم اليقين ما بين طابت و الطينة من حيث الاوضاع الامنية، ومثال اخر، في وقت سابق حين يجثم الوالى السابق كبر على صدر الولاية ، وقتها ارسل وزارة الصحة الاتحادية شحنات من المعينات الطبيه من اجهزة طبية و ادوية وسيارة اسعاف، لمحليات دار الزغاوة الثلاثة، وقتها، جوبه القاقلة بعراقيل يعرق لها الجبين من الوالي وحوارييه من المعتمدين الذين يدعون تمثيل تلك المناطق ،حيث وقفوا صدا منيعا امام وصول تلك الخدمات الي اهلها، بحجج واهية، واساليب رخيصة، اغربهم ما ساقه الوالي حين قال " لوذهب كل هذه الاشياء الي المنطقة يسئ الي شخص الوزير لان الناس يقولون انه ارسله لاهله، مما جعلنا نعاود الا تصال بالوزير لننقل اليه مخاوف الوالي ، وما منه الا وقال " ولماذا لم اقدم لاهلي ! دعهم يقولون ما يقولون و ارسلوا الدواء المشافي، صدقوني، بعد جهود و جهود اقنعنا بعض المسئولين باستلام الادوية وارسالها، ومع البعض اضطرننا االي اتباع طرق اقرب الي التهريب لارسال الدواء الى اهلها، وصلت الادوية ، وجدت بعضها طريقها في اجساد المرضى وبعضها ضلت طريقها في الاسواق سربا، و في زياتي الاخيرة وجدت بعض الاسِرة و المراتب الطبية مفروشة في استراحات المعتمدين بدلا من المستشفيات! ، اما سيارة الاسعاف و بشهادة السلطان و المواطنين انها انقذت حياة عشرات النساء في حالة وضوع ، فهي تجوب القرى و والبوادي والمناطق النائية لجلب النساء الي المستشفى، وكم تمنيت للوزير ان يقوم بمبارة اخري لارسال مزيدا من سيارات الاسعاف الي المحليات الاخري حتى تكنمل الابتسامة الي بدات ترتسم في الوجوه الشاهبه، اللاهثه عن قطرة بلسم او الترياق.
لا اردي من لقن نائب الرئيس تلك الغة طالما لهج بها امام جمهرة المواطنين، ربما انها ذكاء الساسة، عندما اطلق بعد العبارات من لغة يلهج بها انسان تلك المنطقة، كانت كلمات قليلة لا تتجاوز حدود التحية و السلام ، بيد انها تركت اثرا بليغا في النفوس، لم تطالها يد الايام، سمعتهم يقولون انه احترمنا، جاءنا هنا ووقف على لسان حالنها ثم خاطبنا بلساننا التي نلهج بها، لو علم حسبو ما تركته تلك كلماته من اثر في النفوس لتعلم لغة ذلك الاقوم واتق كل شرهم.الاهل في كرنوي يقرءون السلام لبخيت دبجو و الحاج داود لاياديهم البيضاء في توفير سبل الراحة لاهلهم إبان الزيارة، فضلا عن ان الاهل في المنطقة كلهم يكيلون بالشكر و الثناء للوزير ابوقردة مرجعين الفضل لما تشهده المنطقة من بعض بشريات التنمية ،من تأهيل الخزانات و توفير الخدمات الطبيه و اصدقكم القول ان احدى سلاطين قاله لي بصدق "انما ما قدمه الوزير خلال هذه فتره لن يقدمه احداً من قبل"، عندها علمت ان على الوزير دين كبير ينتظره الناس الايفاء به .
عند العودة تعمدنا ان نتخذ طريقا اخر، غير الطريق الذي سلكناه من قبل ، غادرنا من امبرو باكرا وهي كعادتها ترتدي ثوب الغبار، سرنا عبر الطرق الوعرة و الكثبان الرملية، عبر الهضوب و السهوب ،عبر البراري و الوديان، هناك تتباهي الطبيعة بجمالها، ذلك الجمال الذي الهم الفنان عبدالماجد كوربيا ليطرب المسامع بأصداء اغنياته البديعة، هنا في قرية اروري (قيدا بيه)، بدأ الشمس يميل غربا مرسلا بأشعتها الصفراء لتسيل ذهبا على سفوح االتلل،و جدران الاكواخ التي نسجت بالعيدان، في فناء تلك القريه استقبلنا الصغاربوجوه مغبرة يلوحون باياديهم النحيله ، والكبار العائدون من المراعي و الحقول، يتوسلون الينا بالمبيت عند مضاربهم، ليغدقوا الينا مما ملكت ايديهم من كرم الضيافة ودفء يقينا من برد الشتاء، الشتاء الذي بدأ يكشر عن انيابه ، عندما بدا الليل يرخي ستار الظلام. و عند الفجر اطلقنا العنان لاطر سياراتنا كي تطوي المسافات ، بلا كل او ملل ، اراضي ممتدة بين اروري ، بريديدق، حلف، مليط و الفاشر ، دون ان يعتري طريقنا شيئا، غير مناظر الخلابة التي رسمتها يدي البديع فوق تلك البراري المنسية، او تلك امرة كانت تيسر برفقة ابنها على ظهر حمار بين الشجيرات، في تلك الارضي القاحلة، استوقفناها ليدلنا الي الطريق المؤدي الي الفاشر، فرد الصغير من على ظهر حماره، عليكم ان تسيروا شرقا حتى تعبروا بطن ذلك الوادي ، سيتفرع الدرب الي دربين ، دربا يتجه شمالا اتركوه واخر يتجه جنوبا فاسلكوه، فانه طريق حلف المليط الفاشر وعندما غادرنا الحلف الي المليط بداء هواجس و القلق يطرق ابواب قلوبنا، قلق الميشيات.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة