لندن – المملكة المتحدة حصحص الحق وآن الأوان للتأمل ومراجعة الدفاتر فيما أصاب فيه النظام العالمي وما خاب. تلخصت مآسي البشرية في العالم القديم في الانغماس في السخرة والعدوان والجهل، والذي أدى لمخاضٍ من صراع الذكاء البشري الثاقب وغريزة البشر الحيوانية في ممارسة التقتيل والرق والظلم. فتولّد عن ذلك المخاض النظام العالمي الحالي بالتطور الفلسفي، والذي بعث في حراكه الدولة القانونية التي عنت بميزان الحريات مع المساءلات لتنظيم العلاقات في الحقوق والواجبات، ازدهر بموجبها عصر التنوير الذي تطوّر فيه الفكر الإنساني للوصول إلى تحجيم عيوب العلاقات الإنسانية وتعبيد الأرضية المشتركة، والذي ساهم في الصحوة الدينية من خلط الدين بالسياسة والاستغلال. وبدأت المسيرة بوقف الرق الذي باركته الكنيسة في القرن التاسع الميلادي، وهو أسوأ أنواع السخرة والاستغلال، بقيام حراكٍ نشط لوقفه ممن يُسمَّوْن ب "الكويكرز" (أي الأصدقاء) ، والذي اجتمع عندها في 22 مايو عام 1787 في مطبعة بلندن إثنا عشر عضواً منهم لإصدار القرار بمحاربة الرق ، والذي أتى أُكُلُه قبل قرنين من الزمان (عام 1807)، بعد مسيرةٍ صعبة ضد الطمع والظلم، في الثروة التي تولدت من الرق، وبسبب مباركة الكنيسة له على أن الرقيق هم لعنة المسيح بسبب روحهم الآثمة (برواية لعنة حام إبن نوح عليه السلام ولعنة ذريته بواسطة أبيه له لنظره لوالده عارياً واخباره إخوته) – سفر التكوين 9 :24 – 27 (والذي اعتذرت عنه الكنيسة) ووقف العدوان التوسعي، وتأسيس الحريات وحقوق الإنسان بفلسفات عصر التنوير بالعقلانية في الحوار وبسيادة القانون. حتى استقرت المسيرة على نظام أصاب فيها إنجازات هائلة في حل الإمبراطوريات والتحكيم والتنظيم والحوار بترسيم الحدود الدولية وتوفير مواطن للقوميات التي فقدت أوطانها في التوسعات الإمبراطورية، واستحداث إتحاد دولي للحوار(الأمم المتحدة)، والتحكيم (المحكمة الدولية ثم محكمة الجنايات الدولية)، وحقق نبذ العبودية، ولكنه انبنى على عزم هزيل أمام حجم الفزع الكامن، وإخفاقات سحيقة في العدالة وتحييد الغبن والأحقاد، من تقاعسٍ في صفوف الدول الرائدة وقتها واللاتي كان لهن قصب السبق في تشكيل ذلك النظام، في اتباع النظام العالمي لوقف الظلم عند مرحلة التعويض سواءاً كان للرقيق، وفي ذلك ناقشت الكنيسة أسباب انحرافها في مباركة الرقيق بأن نصوص العهد القديم والعهد الجديد كانت غير واضحة، بل تحمل المعنيين لمباركة الرقيق ولتحريمه في آنٍ واحد، ولما أتت لمناقشة التعويض عوّضت الكنيسة عنه الملاك فيما فقدوا من أيادي عاملة مجانية، بما فيهم الكنائس وبعض رجال الدين، ولم يمر ذلك بدون اعتراض بعضهم مثل مخاطبة الأب توم بطلر أسقف ساوث ورك المجمع الكنسي في حوار حول التعويض للمستعبدين بعد وقف الرق قائلاً "الأرباح من تجارة الرقيق هي جزء من أساس بناء تطور أمتنا الصناعي. لا يحق لأي من دخل في تلك الأعمال، تمويلها أو الاستفادة منها ومن ثمارها أن يدعي بأن يديه نظيفتان من براثنها" أو التعويض عن الاستعمار فيما فقدته من نهب ثرواتها (أو حتى الالتزام لها بأمان مساعدتها للوقوف على أرجلها، إلا ما سخرته من القليل لتطوير تلك المجتمعات والذي لم يحل مشكلتها بل تأزّم حالها مع تحميلها ضريبة تدهور البيئة بالجفاف والتصحر من جراء مواصلة استغلال الكوكب على حسابها) أو عن حروب الإبادة في ناقاساكي وهيروشيما، أو في حرب البوير بجنوب إفريقيا، أو المحرقة اليهودية أو حرب الجزائر أو الحرب السوداء بين سكان جزيرة تسمانيا الأبوريجانلز (السكان الأصليين) والمحتلين البريطانيين والتي أبادت سكان تسمانيا في القرن التاسع عشر. ومع ذلك مارست تحرّصاً من المحاسبة، ومن تعثُّر الشعوب المسامة بظلم النظام العالمي الجديد وتخثُّر بنيتها تحت تكبيل الفساد والجهل وتدهور البيئة والنزوح الجماعي. فمكّن مع ذلك التقاعس من عند الدول الرائدة مساهمة بقية الدول التي جاء النظام لحمايتها بضعف ترسيخ مبايعة ومساندة ناضجة للنظام العالمي ذاك، بسبب إذعانها لتفشّي الفساد والجهل مكّن كل ذلك من إضرام نيران دفينة من أمراض النظام القديم إلى جمراتٍ خبيثة في جسد النظام الجديد، تبقت في جوفه وتحت رماد عراكه، تهدد بجر العالم إلى مصيرٍ نرى حيثياته فيما يجري الآن بتصدّع قوى الإصلاح الغربي الذي تمخضت منه أولى مؤشراته وهي خروج أمريكا من الملعب وتعثُّر المسيرة الأوروبية. تمثلت تلك الجمرات الخبيثة في الآتي: الجمرة الخبيثة الأولى: عدم تحرر الأمم الغربية من الرفض الضمني لعدم المساواة بعقد الأفضلية العرقية المبنية على موروثات الوصايا العشرة والتي أتت بتحديد سلالة سيدنا نوح لسام (وهو سلالة الأوروبيين)، وحام (وهو سلالة السود) ويافث وهو سلالة المحاربين (وهم الأوروبيون)، بالرغم من عدم تجانس ذلك مع الأدلة العقلانية التي تطلب النظام العالمي الجديد فرشها لتمكين الحوار وتوسعة الأرضية المشتركة، ثم تبعته مناداة سفر التكوين بربط سواد البشرة بسواد الروح الآثمة برواية إثم حام إبن نوح عليه السلام، والذي أصبح به السود مرشحين للسوم عقاباً، وحتى في أفضل كتابات الكنيسة (رسائل سانت بول) كانت مناداة العبيد السود والذين دخلوا الدين المسيحي لطاعة أسيادهم في معاملاتهم القاسية (1 بيتر 2 : 18 – 25)، بالرغم من أن بعضاً من رسائله تلك تنادي بعدم القسوة على العبيد لأنهم إخوان لهم. وشكّل ذلك ملامح العبودية الأطلسية والتي استخدمت بمباركة الكنيسة لسوم الأمم الإفريقية لبناء الاقتصاد الغربي، ثم لاحقاً للتضحية بحياة رجالها لخوض مغامراتها الحربية. أما بالنسبة لبقية تجار الرقيق فقد كان فقط دافعهم الطمع والاستغلال، فليست تلك المعتقدات عن الجنس الحامي الآثم لها مكان في دينهم الإسلامي، ولم يقفوا عند استعباد السحنات الداكنة فقط، فقد كانوا يستعبدون من يحصدون في غزواتهم كما كان في الإمبراطورية العثمانية والتي تولدت منها فصيلة المماليك، والتي خالفت فيها النصوص الإسلامية بمساواة البشر، وذلك عن طريق تخليقات مشوهة للجزية التي فرضها الإسلام كمشاركة ممن هزموا في الحروب لأمان الأمة المسلمة – وذلك بحقيقة أن الحرب لا يسمح بها الدين الإسلامي إلا للدفاع ضد اعتداء يحدث (وليس مجرد حماية من اعتداء)، وبالتالي يصبح لازماً أنّ أي حرب يدخلها الإسلام هي دفاعية والجزية تكون ضريبة الحماية من ذلك الاعتداء وأما الأمم الإفريقية فقد شاركت هي أيضاً في ازدهار الرق بواسطة تجار الرقيق (والذين كان أغلبهم من السلالات العربية الإفريقية) والذين كانوا يقومون بحملات هجوم على الوطنيين بغتةً وجمعهم لترويضهم على الطاعة وعرضهم للبيع في سوق النخاسة الأطلسية وحملات محمد على باشا التركية، والذين لا زالوا يطيقون التحرش بالقبائل داكنة اللون. أما أثر ذلك على تداعيات خروج أمريكا من الملعب، فهو ذو شقين: بالنسبة لأمريكا: كانت تلك هي مناداة الغالبية التي أتت بالرئيس ترامب، من مساندي التفرقة العنصرية الموروثة دينياً والتي كان لها السبب الأكبر في هجرتهم من المطاردات في أوروبا في تمسكهم بها، كما كانوا أيضاً يضطهدون اليهود، رغم أنهم كانوا يجمعون لهم الأموال فيما كان يسمى بهجرتهم في أوروبا (الدايسبورا)، ولكن بعد منحهم حق المواطنة في فلسطين مع العرب، ورغم رفضهم لذلك، توقفت أمريكا من جمع تبرعات لهم بحكم أنهم ليسوا مهاجرين، وتركت باب الاضطهاد عليهم على مصراعيه حتى مجيء الرئيس ترومان والذي عكس الآية ليتقبل اليهود لاستغلالهم كبذرة خبيثة في الشرق الأوسط لمساعدته في تمكين سيطرة أمريكا التي تحتاجها بعد أن دخلت العالم بعد العزلة التي ضربتها على نفسها وآثار الرق لم يتم محوها بعد، بل بدأت تطفح على السطح مرةً أخرى، خاصةً في حركة "حياة السود لا تهمل" والتي اندلعت بعد توتر العلاقات بين الأفارقة الأمريكان وشرطة الرجل الأبيض، والتي كانت تغلي تحت السطح، فدخلوا في مصادمات حادة، بل واشتعل معها تفاعل مماثل في بعض الدول الأوروبية، بحيث جعلت الأمر قد طفر إلى مرحلة الخطر. فإذا عنى ترامب ما قال، ويبدو ذلك بتعيينه طاقم إدارته الحالي من المتعصبين البيض، ومنهم المجاهر بتأييده لعصابة ال "كو كلكس كلان" المعادية لذوي السحنة السوداء "جيف سيشنز" نائباً عاماً، فإن حركة التحرر الماضية تبدو أنها لم تستوِ بعد وستقوم في أثرها ثورة جديدة وحرب أهلية ضروس تطل على أمريكا المنشقة، مما قد يمزق اتحادها الفدرالي في الحال الأسوأ، أو ليعيد صهرها في بوتقةٍ جديدة بعلاجاتٍ جديدة لشكلٍ جديد، ولكن بعيداً عن تأثيرات العالم الأخرى ومصالحه، وتفاد أمريكا بانصهارها الجديد والذي يكللها بقوة الوحدة الوطنية التي لم تحظِ بها لفترةٍ ليست بالقصيرة. وواضحٌ الآن من تصريح ترامب بأنه سيجعل القدس عاصمةً لإسرائيل، وتعيينه ل "ستيف بانون" المعادي للسامية في منصب كبير الاستراتيجيين للبيت الأبيض، يجعل من ذلك التضارب هزؤا بإسرائيل خاصةً لو تبلورت سياسة الانعزال التي يبدو خياره لها حتمياً، فإسرائيل لن تعنيه في انعزال أمريكا، وليس لإسرائيل تقبل لدى اليمين المتطرف الذي يخدم عمقاً له في أمريكا وفي أوروبا وروسيا، والذي سيتولى حسم التطرف الديني الصهيوني اليهودي والجهادي الإسلامي بدعم روسيا وبالنسبة للعالم فإن علاج التفرقة العنصرية سيكون أسهل، فالشعوب الإفريقية قد تطورت وتمكنت، وبقية شعوب العالم نضج تقبلها لها، ويبقى اليمين المتطرف الذي يمثله ترامب نفسه، والذي انتعش في أوروبا بفوز ترامب، وهي شعوب ساخطة من الظلم الطبقي وهجرة الشعوب التي تكاثر توالدها بينما ضعف عطاء الكوكب، فلبّت نداء موروثها التأريخي بتمسكها بسلالتها وفضلت الانعزالية من هجمة الشعوب بالهجرة إليها، وليس في ذلك تدهور أخلاقي أو نكصٌ لعهد، ولكنها سلبية منهجية وستحل بتلك الانعزالية محل تجارة الرقيق، وتجارة الرقيق الأبيض وعبودية الأطفال والتي ستتسع لها الفرصة لتندثر، وستقوم كما أشرت أسبقاً إلى مقاومة التسلط الديني، وكل ذلك يكوِّن أرضاً خصبة لإفراز مقومات نظام عالمي جديد للعالم غير الأمريكي. أما علاج الهجرة غير الشرعية من الجنس اللاتيني، ومعاناة أمريكا من آثاره المسببة من المخدرات وتفشيها وإضعاف سلطة القانون، فليس بناء الحائط بين الولايات المتحدة والمكسيك هو الحل، وما قصد به ذلك، إنما في رأيي هو مواجهة المكسيك للتعامل مع الولايات المتحدة في علاقةٍ تهم أمريكا بوقف أذى المكسيك عنها، على أن تتعامل أمريكا مع المكسيك على أسمى علاقات الجوار، بالتعاون لاقتلاع حركة تجارة المخدرات والهجرة غير القانونية، وبسط سلطة القانون، بمساعدة أمريكا وإشرافها لقاء المساعدة الأمريكية في بناء المكسيك وتطوير أدائها الدولي، لكونها أيضاً ستكون السور الجنوبي لحماية عزلة أمريكا يخدمها عنها المكسيك لقاء ذلك الحلف وتكون بذلك أمريكا محمية بروسيا الصديقة التي ترتبط مصلحة سلامة عزلة أمريكا بمصلحتها في خلو الجو لها للسيادة العالمية من ناحية المحيط الأطلسي شرقاً ومن ناحية ألاسكا شمالاً وغرباً باليابان بجيشه الضارب وسلاحه النووي الجديدين، والمكسيك ودول أمريكا الوسطى اللاتينية جنوباً
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة