كثيرٌ من الناظرين تائهون في أوهاد النظام العالمي الآفل في قراءتهم للمستجدات في الأمر الأمريكي، والبعض ضائعون كالعادة في تحليل الأوضاع السياسية تحت مجهر الفضائح المستحدثة والأضغان القديمة والمظالم الدفينة التي عُرضت في ساحته أو شكلت إعلامياته لكن بوضعنا ثوابت معينة تتضح لنا الرؤى والبوصلة في آنٍ واحد: الصورة التي بدأت تتشكل هي أن تعود أمريكا لانعزاليتها مرة أخرى بعد علاج أسباب تركها لها في أوائل القرن الماضي والذي فيه اعتركت مع اليابان ومع ألمانيا وانتهت المعارك بتجريد اليابان من جيشها الضارب وألمانيا بالتزامها بعدم الدخول في معارك خارجية، إذا نجحت في استمالة اليابان لمصلحة مشتركة معها تقوم اليابان بحمايتها بها (وذلك باستغلال التوترات بين اليابان والصين وكوريا الشمالية واستراتيجية بحر الصين الجنوبي بالنسبة للصين)، بأن تسمح لليابان وتساعدها باقتناء القنبلة الذرية وتسليح جيشها لتقف بين أمريكا والصين بعد عزلة أمريكا. لذا نرى بالنسبة لليابان، الزيارة النشاز من رئيسها لأمريكا، ليس لمقابلة رئيسها – وهو حالياً باراك أوباما – بل لرئيسها الذي لم يستلم مهامه بعد، وبعدم إشراك أيٍ من دواوين الدولة سوآءا من الخارجية أو الأمن أو الاستخبارات، والذي فيه صدر اتفاقها الخطير بالسماح لليابان بالسلاح النووي وتكوين الجيش الضارب ونرى بالنسبة لليمين المتطرف في أوروبا ترحيبه به لأنه يشغل حلفاءه عن روسيا، باستقبال ناجيل فاراج الذي يمثله في إنجلترا والذي أوقد جذوته في أوروبا، وتقدم مارين لا بن زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا لتكون على الأغلب رئيسة فرنسا المقبلة، وأهمل بريطانيا لأنها تحارب اليمين المتطرف ويسيطر عليها الفكر التحرري الإجتماعي ويترك المعركة لتدور بين شعوب أوروبا من الشباب الساخط بسبب التفرقة العنصرية والعطالة المتفشية ونهب الأموال بالمؤسسات العالمية الكبرى، والتي تحول كثير منها للتطرف الديني، حتى تصفي خلافاتها بحروبها الأهلية، ويواجه هو في أمريكا حروبه الأهلية لتحديد الهوية، وبذا تبدأ في العالم ظهور علاجٍ جديد للهوية والسلام العالمي بعيداً عن التوسع الجغرافي الإمبراطوري وفي نفس الوقت بعيداً عن العولمة التي تطمس معالم القوميات. وبما أن أغلب جمهور الحزب الجمهوري من الذين تنطبق عليهم تلك المواصفات والتي تجعل هذه الحركة الانقلابية هي رسالتهم وأملهم، فليس لدى الحزب الجمهوري سوى النزول عن برنامجه خاص الحزب لصبه في القالب الجديد الذي رسمه جمهوره، وبالتالي يكون الصراع السابق بينهم هو صراعٌ حول باطلٍ، يمكن معه التصالح، فهجوم ترامب على ديك شيني بأنه ليس بطل حرب إنما قضى الحرب أسيراً، يمكن تسويته بأنه ليس بطل لأن الحرب لم تكن لمصلحة أمريكا (بشهادة جمهور حزبه الجديد)، ولكنه كان ضحية لمصلحة دولته، لذا ترى ديك شيني قد تصالح مع ترامب. وسباب ترامب مع ميت رومني يرجعونه إلى "عهد الجاهلية" وها هو رومني موعود بمنصب وزير الخارجية، وهكذا دواليك في انعزال أمريكا تراجع عن حلفها مع أوروبا وذلك يترك الملعب لروسيا التي هي نفسها أوروبية لتعالج مشاكلها وتتفق مع بقية أوروبا وتتفرغ لمخاطر التطرف الديني والتغول التجاري الصيني على أوروبا وتمتنع أمريكا من الصرف على حلف شمال الأطلسي بحجة أنه مشكلة دول الأطلسي الأوروبية، وهي تعلم أن تمويلها له لكونه مركز دفاع متقدم في أوروبا عن أمريكا، ولا تحتاجه إذا تصالحت مع روسيا ولا أعتقد أن الرجل يعني ما قال ببناء حائط لعزل المكسيك، وهو الذي لم يتمسك بذلك بعد فوزه، ولكنه تمسك وتوعّد بترحيل ثلاثة مليون من المهاجرين غير الشرعيين والمجرمين. وأتوقع أن يدخل في اتفاق مع المكسيك لعلاقة جوار بناءة بأن يساعد في بنائها اقتصادياً على أن تكون طيعة للتنظيم الأمريكي الذي سيقتلع منها زراعة وتجارة المخدرات والتهريب، بل يجعل من دول أمريكا اللاتينية حاجزاً جنوبياً لتأمين أمريكا بعد أن أمن جانبها الغربي وتحمي روسيا جانبه الشرقي. أولاً: الرجل وراء الانقلاب النظامي – يجب أن نعي ما هي إحداثيات شخصية ترامب: هو شخص غير سياسي ولا يعرف شيئاً عن فلسفات أو استراتيجيات السياسة. وهو منحدر من أصل اسكوتلندي: أي مشرّب بالعدل الاجتماعي والنفور من النظام الملكي، وبالتالي لا يطيق الملكية الأوروبية وهو ما تشرّب به أيضاُ أغلب الأمريكان في هجرتهم الأولي للأراضي الجديدة هروباً من ملاحقات الممالك الأوروبية، وزوجتاه وأبناؤه منهما من عروق سلوفاكية أوروبية مضطهدة باليمين المتطرف الأوروبي والغربي عموماً. وهو رجل أعمال قاسي كان من أوائل محدثي النظام الرأسمالي الإقطاعي وإقصاء الدولة في إدارة النمو الاقتصادي، مسانداً للبنوك في رفضها تمويل بلدية نيويورك بشرائه مبانيها المتهالكة في محنتها تلك وبتمويل البنوك، والذي آلت به سلطة البنوك على تخطيط المدينة، ثم خدعه للبنوك بأول وأضخم إعلان إفلاس حريٌّ بجرأة مافيا ثانياً: الاستراتيجية الطبيعية لأمريكا – حسب ما أوردت في مقالي السابق بهذه الصحيفة بتأريخ 14 نوفمبر "هل هو مخاض نظام عالمي جديد؟" كانت أمريكا خارج خارطة العالم في انعزالٍ اختياري بعيداً عن مشاكل أوروبا وتحت حماية عزلة المحيط الجبار، تتمتع بتطورٍ بطيء ولكن مع استقرارٍ أسري ومجتمعي في بوتقةٍ دينية قوية وغير متعدية، حتى أجلٍ قريب، بعد تحرش اليابان بها ثم ألمانيا وإيطاليا في اعتداء الأولى على بيرل هاربر عام 1941، والذي بدد أمان أمريكا بحماية المحيط، فدخلت اللعبة السياسية لتسود فيها وتسيطر بحكم قوتها العسكرية والاقتصادية، وكونت الأمم المتحدة عام 1945 مكان عصبة الأمم المتحدة لتأمين قبضة قوى التحالف لتأمين النظام العالمي القائم وبقيادتها هي ثالثاً: الصراعات الإيدلوجية والهيمنة الاقتصادية في العالم: حال العالم عندها أنه كان قد خرج من مرحلة تفكيك الإمبراطوريات ومحاولات نزع فتيلة الأحقاد والتي كان أغلبها من رواسب الصراعات الدينية، وأشدها ما كان بين سلالات العباسيين والأمويين، وبين المسلمين واليهود، وبين الكاثوليك والبروتستانت، ثم الصراع بين الرأسمالية والشيوعية، والتي أشعلها العداء الديني بين روسيا المعادية للأديان ودول البترول الأموية مع شيء من أوروبا الرأسمالية (والتي كانت قد بدأت حينها العدول نوعاً ما عن الإقطاعية) تداخلت الصراعات باضطرابات وهجرات من جراء التعدي على الحريات ورواسب النهب والفساد وبأسباب هي إما صراعات دينية أو حروب ثأر، مع تداخل التدهور البيئي للكوكب، فضعفت عروة النظام العالمي الجديد في توحيد مساعي البشر للسلام والرخاء. رابعاً: مفاعل الاستراتيجية الروسية – إن ما قام به ترامب من قلبٍ للأوضاع في أمريكا وحتماً في العالم، ليس قطعاً وليد حنكته السياسية أو الفلسفية، وكما نعلم ليست صحوةً ما أو ثورة من حزبه الجمهوري أو أي حزبٍ فكري أو سياسي أمريكي، ورغم أنه تغذى من رغبة القوم الأمريكان، واشتعلت جذواه من إرادتهم إلا أنني أرى أن الفضل في ذلك يأتي من الاستراتيجية الروسية والتي هي أيضاً كانت قريبة منه بحكم علاقته الطيبة (واعجابه اللاحق) بالرئيس الروسي بوتين، والذي قطعاً كان يضع انتخاب رئيس أمريكي غير خبير في السياسة ولكنه محبوب الجماهير في حسبانه بحكم سيطرة قوة الإعلام في تشكيل السياسة والرغبة الأمريكية، وأول دليل هو نجاح الرئيس رونالد ريجان بالرئاسة مرتين وكل مؤهلاته كان كسب حب الجمهور له كممثل ناجح في صناعة الأفلام. رصيد من سكان الأرياف والسهول من البيض الكادحين ومن القومية التي تشتعل في دواخلهم خامساً: النزعة الدينية – ولا ننسى ما انطبع به سيد قطب عندما كان مبعوثاً في الولايات المتحدة أيام حكم عبد الناصر الأولى، وكيف أنه رجع متضايقاً من هيمنة الإعلام الأمريكي في لهو الأمة عن الإصلاح السياسي في العالم مما حدا به الدخول في خلافٍ محتدم مع عبد الناصر لاتخاذ اتجاه سياسي إصلاحي ديني في نظامه والذي به انشق النظام والإخوان إلى تنظيم خيري (تحت الشيخ الهضيبي) وتنظيم ثوري (تحت سيد قطب) ولا ننسى أنه في نفس ذلك الحين كان دونالد رمسفيلد من الجمهوريين المتطرفين دينياً (المحافظين المتطرفين) والذين تحركوا بدعوة مماثلة لتدخل الدين في السياسية كما فعل سيد قطب وتجمَّع ذان الحدثان في حربي العراق وأفغانستان لمّا كان رمسفيلد وزيراً للدفاع في حكومة بوش التي كانت تهتدي بحراك ديني إنجيلي، بينما كان الظواهري – نائب سيد قطب – هو الثاني لأسامة بن لادن الذي يحاربه بوش بثنائية دونالد رمسفيلد.. وللمراقب السياسي، هنالك حرب ضروس خفية محمولة بالوكالة، كلها حروب دينية تطرفية سياسية: الإنجيلية من المسيحية السياسية في أمريكا، والصهيونية من اليهودية السياسية في إسرائيل، والجهادية من الإسلام السياسي في دول البترول خاصةً كل ذلك يجعل العامل المشترك بين أمريكا وروسيا هو الحماية من التعدي الديني السياسي، وهو التطرف الإسلامي، لأن التطرف المسيحي لا يصيب روسيا ولا التطرف الصهيوني، والتطرف المسيحي يعتمل مع البرنامج الصهيوني بحكم قناعة الأول بضرورة انتصار الثاني لظهور السيد المسيح وضاعت بسبب التمسك بحروب الثأر فيها والتناحر العرقي أغلب المجهودات التي كان مطلوباً تركيزها في مواصلة إزالة الرق ورواسبه من التفرقة العنصرية، واضطهاد المرآة وتلويث البيئة وإهمال الملايين من البشر في الفقر والمرض والظلم، والذي بدءاً يحتاج بعد عصر التنوير للإصلاح والبناء من داخل النظام العالمي المستحدث وليس للعمل من خارجه على تقويضه. والخلاف الأساسي بين الإثنين هو السيطرة الاقتصادية العالمية
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة