إن كُتب لك أن تقرأ رواية (باغندا) ستحبل ذاكرتك أكثر وتحتشد بنجوم لامعة كإِعصار جارف، سطعت فجأة في سماء البلاد... رجال أعمال قفزوا بالزانة، سفراء غفلة ومعدمين، مطربين خواء نبتوا كحشرات (بنت المطر)، كتاب كبار بالاسم تسكنهم الريبة والإنتهازية والحذلقة، سياسيون يرضعون من فقر البسطاء، إداريو أندية رياضية بلهاء يقفون كعش الغراب، وغيرهم من الأثرياء الجدد الذين سدوا مسام السماء وحجبوا أرزاق الفقراء بفحشهم اللعين من جرَّاء سيادة سياسة الاقتصاد الموازي الذي تتحلق حوله عصابات مالهم المشبوه. اسماء ينخرها ويسكنها سوس الفساد والفسق والفجور ولعنة الدم وقبيح الصفات، كلها صعدت وارتقت مع صُفَّارة الشيطان (مارد الإنقاذ اللعين...) الذي صعد رغم أنوفنا إلى سماء البلاد وتسنم كل شيء. هكذا هم كالريحٌ تهُبُّ بشدَّة وتثيرُ الغُبار وترتفع كالعمود إِلى السماء حتى تتبدد وتتلاشى في العدم. فتلك قوانين الجغرافيا، والمنخفضات الجوية لا حيلة لنا معها. كل تلك العوالم المبتلة بالعفن تحتل متن رواية (باغندا، للروائي التونسي شكري المبخوت، الطبعة الأولى 2016، دار التنوير للطباعة والنشر بتونس). رواية جديرة بالقراءة، وأخص بها كل رياضي ومشجع، وآخرين، للتعرف على كيف يصنع المجرم نفسه ويؤهلها لنهش شرايين الشعب من خلال تسوله على بساط العشب الأخضر. رواية لم تتورط وتلج بحر السياسة الحافل بالطحلب، وإن لامست الشطّ عن قرب، وعبرت عبابه وأمواجه المتصاعدة. وظل اللاعب الفلتة والمهاجم المرعب (باغندا) مركز الحكاية الشيقة حتى النهاية الرشيقة. من قبو النسيان يقوم رجل عنكبوت، مثل، عماد بلخوخة (شخصية من شخصيات رواية باغندا) لا يملك شيئًا من حزم المال الموروثة سوى بعض الحماس لبلوغ النجاح الإجتماعي، فجأة يخصص من العدم عشرين سيارة فاخرة لأعضاء لجان الحزب التنسيقية بتونس. وفي ذاكرتنا – بالطبع لا تنسى – سيرة مئات السيارات أهداها رجل أعمال في يومٍ ما في أزمنة العبث لعسكر (أبو خديجة) ببلادنا الحبيبة. هكذا نضجت غيوم الزبد ودوائر الفقاعات وجيوب الإجرام المتواري تحت ظل الفوضى حتى انفرط العقد المتين وبتنا في مسغبة يعلو سطحها رعاع يمتلكون مقاليد مفاتيح البلاد برمتها. ونفس حيلة (طاقية ده في رأس ده) ولكن هنا برمزية اسماء أخرى في الرواية.. التصّرف في الشاشيّات والطرابيش بسياسة لا أحد يدفع شيئا من جيبه. وفي قطاع الرياضة تتم ممارسة سياسة الاقتصاد الموازي المشبوه وازدواجية العمل المحاسبي والتهرب الضريبي والرشوة بطرق عديدة ملتوية. (بلخوجة) رئيس نادي الاتحاد التونسي لكرة القدم نمذوج لرجل أعمال سوداني اقترب من شراء المشروع الحضاري، وآخر يتيه في أحلام صفاقته حتى كاد أن يكون مطربًا مشهورًا، كما فعل غيره وجمع بين الوتر والكفر والحرف والمال وغيرهن من الصنائع الزائفة. على كل حال، أضحت ملاعب كرة القدم مجالًا خصبًا للاستثمار في البشر وليس كرة القدم. وهنا تلوح تلك العبارة، ولكن بكلمة بديلة أخرى: الكرة أفيون الشعوب. وهكذا تستثمرها الحكومات على نحو لا يتدفق معه الزئبق من الأصابع إن ضممتها أو أفردتها؛ سيان الأمر. بلا شك أن تلك الظروف أفرزت طبقة جديدة من أثرياء الكوارث والمحن، وصاروا الآن نجومًا للفوضى الاقتصادية والركود الماثل القابض على عنق وقلب البلد. لم أكن أتصور أن أجد في متن الرواية ما يربطها ببلادنا السودان رغم أنّني مررت بالكثير العبارات التي اعتدنا أن نستخدمها في لغة الحديث اليومي المتداول كلهجة سودانية خالصة تخصنا في الصميم كعلامة نوسم بها على الأقل وسط العرب، وكلما عبرت بساق كلمة تسلقتها حتى وقفت على أبعادها وعقدت المقارنة التي أشعر انها قاصرة. ولكن السبب أنّني لا أجيد اللغة العربية ولست ماهرًا كالآخرين. فجأة، وعند منحدر أفول الرواية أجد الزعيم اليساري ورائد الحزب الشيوعي السوداني، عبد الخالق محجوب حيًا بذات سمته الذي عرفناه به كقائد مضاد للرأسمال وعيال الطفيلية.. وقد كان. لم يدر بخلدي، أن يغمر سياسي معروف أرضية ملاعب كرة القدم المبتلة بالترفيه وإزجاء الوقت، وأن يرد جزءً من تاريخه الناصع في رواية. والأغرب من ذلك زعيم خلد نفسه بين أعواد المشانق ومضى موفور الكرامة ونظيف اليد من بلادنا، بلاد السودان.. وكل ذلك يجري ضمن خضم رواية تتناول حياة نجم رياضي أسود ذاق الأمرّين، بسبب لون جلده وملمس شعره الخشن، من ويلات قبيلة الإجرام واللون. وكان عبد الخالق محجوب سيكون نصير لاعب تونس الشهير باغندا الذي عاني من لونه قبل أن يعاني من مافيا كرة القدم، لو لم تلاحقه خناجر العسكر المسمومة بلوثة الدجل والتمسح بالتدين السطحي. فالرواي في رواية باغندا الصحفي عبد الناصر العسيلي في حوار له مع شخصية ثانوية في النص أقتفى أثر عبد الخالق محجوب. وكان ذلك مع عم صالح الحلاق في أحد مشاوير بحثه عن حقيقة إختفاء النجم فتحي بركة المشهور بلقب (باغندا). وقال العسيلي في المتن المسرود ضمن الصفحة رقم (200): كنت أجد بين صلاته وشيوعيته تناقضا جعلني أتصوّر أن الصفة من باب المزاح. فسألته عنها يوما وكانت إجابته مفاجئة لي: -"ألم تسمع بعبد الخالق محجوب؟". لم أكن قد سمعت به فعلا. حدّثني عنه مطوّلا بإعجاب كبير علي قدر السبّ المقذع للشيوعّيين العرب وللاتّحاد السوفياتي ولجعفر النميري الذي أمر باغتيال عبد الخالق محجوب سنة 1971. وفي خضم ذلك نقول: على الطريقة التونسية في الافتتان بالدوري الأوروبي حيث لكل جمهور فريق معين يشجعه على ضفة البحر المتوسط المقابلة.. يا ترى هل يميل جمهور الهلال إلى البرشا والمريخ إلى الريال أم ماذا يا ترى في الأمر! وفي الظاهرة المستشرية في دول العالم الثالث تلعب السلطة السياسية دورًا وسيطًا ومباشرةً في ممارسة فنون الإلهاء بإِشغال بال الجماهير بفرق محلية وعالمية بدرجة عالية الدقة لا تفوت على فطنة الجميع. تونس طالتها الظاهرة منتصف ثمانينات القرن المنصرم بينما الجماهير السودانية ولغت فيها في مطلع التسعينيات من القرن نفسه، عاقبة التجربة التونسية المؤدلجة هنا وهناك. بالأحرى، دعونا نقول دون مواربة، منذ أن سطت (الإنقاذ) على البلاد جعلت من ملاعب الرياضة مارثون للجدل العميق الذي لا ينتهي في مماحكة سمجة، بينما البلد تغرق كل لحظة في الهاوية. أعود، ولو بقليل معرفة، لنبش بعض العبارات التي عبرت فضاء متن الرواية. مفردة بانديّة: كلمة فرنسية الأصل تعني قاطع الطريق واللصّ وعموما الشقيّ الذي لا يتورّع عن الأعمال الإجرامية. والمفردة بالطبع ولجت قاموس اللهجة التونسية كما يبدو في ظاهر الحال من الاستعمار الفرنسي الذي حلق في تلك البلاد في الفترة من 12 مايو 1881م، إلى 20 مارس 1956م. بالطبع، لا يمكن لنا أن ننسى مفردة (باندية) السخيفة، ومدلولها العنصري البغيض منذ أزمنة الإستعمار البريطاني في السودان، على الأقل كانت رقيقة حال مقارنة بالغث الذي إمتلأت به لغتنا من العبارات والأساليب الوقحة التي تكاد أن تمزق النسيج الاجتماعي والبلد برمتها. أما كلمة (يتمرْمدَ)، هي عربية الأصل. وفي قاموس (المعجم الوسيط)، تعني الكثير من المعاني مثل: رمَّدَ يُرمِّد، تَرميدًا، فهو مُرمِّد، والمفعول مُرمَّد. أرمد البكاءُ عَيْنَه: سبّب لها الالتهاب، أصابها بالرّمَد. أرْمَدَ الشيءَ: صَيَّرَهُ كالرَّمادِ. أرمد المكانُ: أمحلَ وأجدبَ وافتقر رمَّد الشِّواءَ: أفسده بالرَّماد. رَمَّدَ العَدُوَّ: أَهْلَكَهُ. ارمدَّ وجهُه تغيَّر وأصبح بلون الرَّماد. الأرْمَدُ من الثِّياب: الأغبر والوَسِخُ. وكل ذلك صحيح، وقريب وفي ذات إطار المعني الدلالي لذات الكلمة عندما تأتي وكأنها كلمة عامية... عندما نقول: (زول سجمان ومرمد). وفي أنواع القماش حفلت الرواية بنوع معين كان ذات يوم لعقود مضت سيد الأناقة على صعيد لبسة الجلباب (الجلابية). وتأتي الكلمة عندنا وعند أهل مصر بهذه الصيغة (السكروتة) وعند أهل تونس (السكرودة)، ويستخدم هذا النوع لصناعة الجبة التونسية الشهيرة المصنوعة من الحرير المحاك على هيئته الأصلية بلونه الأصفر الطبيعي. وفي الأصل دخلت الكلمة قاموس اللهجات المحلية في شمال أفريقيا من الكلمة الإيطالية (seta cruda)، وهي نوع معين من خيوط الحرير الذي تنتجه دودة، وأطلق أهل مصر من المصطلح الإيطالي كلمة (ست عكروتة)، حتى انتهت إلى (سكروتة). كما وردت كلمة تبدو من دارجية أهل تونس إلا وهي؛ البركاجات: مفردة (براكاج) وتعني السطو على شخص وسلبه تحت التهديد. وهذه المفردة ظهرت في عاميتنا بصورة أخرى لكنها قريبة من الصياغة نفسها.. ونجد بعض شبابنا يستخدمها في مفردتين: (بركت أو برشت)، وأرجو أن يكون ذلك صحيحًا؛ وتعنيان نفس المعنى في لهجة أهل تونس، وإن كانت العملية عندنا تتم بالتراضي مع الطرف الآخر أو على الأحرى بأسلوب الفهلوة والشيطنة. وأتت كلمة (خَلِيقَة) رغم فصحتها الواضحة عند أهل تونس هكذا كما وردت في نص الرواية... الخلايق: جمع (خليقة) كناية عن الشخص الخطير الذي لا يتورّع عن الأعمال الإجرامية. كما ترد في عاميتنا بمعنى مغاير ومضاد للكلمة الفصحى: (الخِلاقة أو الخلِيقة) أي الشخص غير المخلوق بمعنى ليس هو من طينة بني آدم. وللكلمة معنى معين ومحدد في معجم: اللغة العربية المعاصر... الخَلِيقَةُ: الطبيعةُ التي يُخْلَقُ المرءُ بها والجمع: خَلِيقٌ، وخلائِق. الخَلِيقَةُ: الناسُ وكلُّ مخْلُوق. خَليقة: طبيعة وسجيَّة الإنسان. خليقة: سحابة أنزلت مطرها. خُلُق: لَهُ أَخْلاَقٌ حَسَنَةٌ: الآدَابُ والسُّلوكُ الحَسَنُ. أما الكلمة الفصيحة التي تأتي في حديثنا عادة وكأنها جزء أصيل في عاميتنا السودانية، هي: سبهلل. بالطبع هي كلمة عريقة في اللغة العربية وتعني في قاموس المعاني: السَّبَهْلَلُ: الرجل الفارغ. جاءَ سَبَهْلَلاً: فارغًا لاَ شيءَ معه. السَّبَهْلَلُ: النَّشيطُ الفرِح. هو يمشي سَبَهْلَلاً: يجيء ويذهب في غير شيء. السَّبَهْلَلُ: الأَمْرُ أَو الشيء لا ثمرة فيه. ولعل تبديل الحروف واحد من سمات اللهجات عموما ويبين في أيةٍ دولة تتحدث باللغة العربية حتى داخل القطر الواحد تجدها مختلفة في الحروف، وهنا مثال بارز لكلمة يتحثرب والتي يعادلها في عاميتنا كلمة (حترب)، والتي تعني الشيء الصغير الساقط في أسفل الماء. وتأتي الكلمة في اللغة العربية الفصحى بمعنى: حثاريب وهي ما يقع في الماء ويعكره، واحداها حثروب. واختم بشيء، يتعلق برمزية الرواية والمغزى الأقرب للفهم من خلال التاريخ السياسي لدولة تونس وتاريخ اللاعب باغندا. مثلما اطاح إنقلاب غير دموي نفذه زين العابدين بن علي على مؤسس جمهورية تونس الحبيب بو رقيبة وفرضت الإقامة الجبرية عليه في قصره، جرت أحداث الرواية بإختفاء جوهرة تونس السوداء وعزله في مشفى حتى وفاته الغامضة في تزامن تاريخي واحد. إنها تجليات السرد والابداع للمؤلف الاستاذ الجامعي شكري المبخوت الذي جاء سلسًا وعذبًا وبعيدًا عن التابوهات والمحمولات الزائدة عن شحن النص بدلالات الايديولوجيا وغيرها من المثبطات التي تؤذى السرد والحكاية بالتالي القارئ شريك الكاتب.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة