إن سألتموني عن اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، لقلت بلا تردد إنه اسمه "المتكبر". وكيف يتردد من تأكد، ووثق في ربه، ولم يثق في نفسه الدنيئة الأمارة بالسوء؟! لكن هل دعاء الله باسمه "المتكبر" أن نقول: يا متكبر ارزقني! يا متكبر افعل لي كذا وكذا؟ كلا، بالطبع. نلاحظ بوضوح من خلال هذا المثال أن المناداة الصوتية لوحدها قاصرة. ونستنتج أن دعاء الله سبحانه وتعالى، بأي اسم من أسمائه الحسنى، ينبغي ألا يُختزل في المناداة الصوتية، إذ إنّ للدعاء بُعداً آخر أهم، لا بد لنا من معرفته. وينطبق هذا القصور حتى على قولنا: "يا كريم ارزقني، يا رحيم ارحمني...الخ". معنى "ادعوا الله"، في اللغة القرآنية، "اعبدوا اللهَ". عبارة "ادعُ فلاناً" تعني ناده بصوتك ليسمعك، لكن الله سبحانه وتعالى يسمعنا ويبصرنا ويعلم سرنا وجهرنا، وبالتالي فإن دعاءنا إياه يعني أن نعبده. وهكذا فإن معنى الآية الكريمة "ادعوني استجب لكم" هو: اعبدوني استجب لدعائكم، أي أقبل عبادتكم/عبوديتكم فألبي سؤلكم وأقضي حوائجكم. لن يكتمل ذكرنا لله بأفواهنا إلا باستحضارنا العبودية له في قلوبنا. ودليلنا على أن الدعاء يعني العبادة/العبودية آيات كثيرة، منها "فلا تدع مع الله أحدا"، (سورة الجن، الآية 18)، أي: لا تعبد مع الله أحدا. ومنها أيضاً "وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ" (الأنعام، الآية 108)، أي: لا تسبوا الآلهة التي يعبدها هؤلاء من دون الله. وفي الآية الكريمة "فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون" (غافر، الآية 14)، تأكيد واضح لهذا المفهوم. لكن هل "اعبدوني" تعني اعبدوني عبادةً، أي بالعبادات، أم اعبدوني عبوديةً؟ العبادة قد تستغرق وقتا طويلاً: صلاة وزكاة وحجاً وبناء مساجد وغير ذلك؛ أما العبودية، فإنها تنبتُ في القلب على الفور، ولا تحتاج بالضرورة إلى كثير وقت لتتحقق. العبودية هي المحتوي القلبي الثابت للإيمان والإسلام؛ والعبادة هي المحتوى العملي أو الحركي. وأما التواضع فهو الكلمة ذات الطابع التقني أو التطبيقي التي تساعدنا على تحقيق معنى الإيمان والعبودية في قلوبنا وفي جوارحنا. إن مصدر الفعل "يعبد" هو عبودية، في المقام الأول. العبودية قبل العبادة وفوقها. العبودية شرط لصحة العبادة، وليس العكس صحيحاً. فقد يعبد الإنسانُ ربه بقلبه عبوديةً ولا يتسنى له الوقت ليعبده عبادة فيدخل الجنة رغم ذلك. وهناك قصة الصحابي الذي أسلم لتوه ثم دخل المعركة فقتل. لم يتح له الوقت للقيام بالعبادات، لكن لحظات من العبودية كفته وأغنته وأدخلته الجنة. وهناك صحابي آخر عاش في العبادة والجهاد، ثم أجهز على نفسه في آخر معركة خاضها فمات منتحرا، فدخل النار. في الآية الكريمة "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" (الذاريات، 56) المقصود العبودية وليس العبادة، أي: إلا ليعبدوني عبوديةً. ويتضح ذلك بجلاء أكثر في الآيتين اللتين تليان: "ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين"، أي أن الله لا يحتاج إلى عبادتنا، فهي ليست زرقاً له ولا طعاماً له، ولكننا نحن محتاجون للعبودية له. العبادة نأتي منها ما استطعنا، لكن العبودية في القلب لا بد أن تكون كاملة غير منقوصة. مثقال ذرة من شرك، مثقال ذرة من كبر، ينافيان العبودية الكاملة التامة لله سبحانه وتعالى فيدخلان صاحبهما النار. لا يقبل الله عبودية ناقصة، لكنه يقبل العبادة الناقصة. العبودية لا يمكن، أو لا ينبغي، أن تكون ناقصة؛ إما العبادة فهي بالضرورة منقوصة مهما اجتهدنا في تجويدها. يغفر الله الذنوب جميعا، إلا الكبر وإلا الشرك، ولو كانا في حجم ذرة. العبودية تواضع تام، وخضوع تام، وإسلام تام لله عز وجل. وأي خدش غير مقبول، وأي نقص يدخل صاحبه النار. إذن دعاء الله باسمه المتكبر معناه التواضع التام لله ولخلقه حتى لا يبقى في القلب مثقال ذرة من كبر. ونفهم من ذلك أن دعاء الله إنما هو حالة تكون أنت عليها وليس مجرد قول تقوله بلسانك. حالة من التنازل الكامل عن الكبرياء في القلب والاعتقاد، والتخلص التام من التكبر في القول والعمل. الكبرياء رداء الله وحده. ولئن كان التكبر في حق الله حقيقةً وكمالا وجمالاً، فإنه عند الخلق كفر وعصيان وشرك. وإنه ظلم عظيم. الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يحق له أن يقول: أنا فعلتُ لكم كذا وكذا وكذا: أنا خلقتكم، أنا أرزقكم، أنا أحييكم وأميتكم وأبعثكم وأحاسبكم. إذن، عندما تدعو الله باسمه المتكبر، أخي الكريم/أختي الكريمة، تكون في حالة تواضع وعبودية تامين وكاملين. ولا يعني دعاؤنا الله باسم المتكبر أن نقول ذلك قولاً بأفواهنا. تلك الحالة هي وحدها التي نحقق بها إقرارنا بأن الكبرياء لله وحده، والعظمة له وحده، وأنه هو المتكبر حقاً وكمالاً وجمالاً وجلالاً. هذا التواضع من جانبنا شرط جوابه الرفعة الموعودة من الله على لسان نبيه الصادق الأمين: "من تواضع لله رفعه"؛ وهذا التواضع هو المقصود في الآية الكريمة "ادعوني استجب لكم"، أي تواضعوا لي واعبدوني عبوديةً وعبادةً فأجيبَ سؤلكم ومطلبكم. ثمة أقوال كثيرة في اسم الله الأعظم. وليس في هذا المقال ما يناقض أيّا منها. وليس هدفه استعراضها. أسماء الله كلها حسنى، وكلها عظمى، فالأحسنُ أعظم: "قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسماء الحسنى" (الإسراء، 110). ادعُ الله بما شئتَ من أسمائه فهي كلها حسنى وكلها عظمى. والأمر المهم ليس في ترديد تلك الأسماء وكأنها طلاسم، وإنما مناط الأمر كله في الحالة التي يكون عليها الداعي: الخضوع لله، والافتقار إليه، وخلو القلب من كل ذرة كبر أو شرك: "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرينَ" (غافر،60). نفهم من الآية الكريمة أن هناك تناقضاً تاماً بين الدعاء وأي الكِبر في القلب. هذا الافتقار وهذا الانكسار المصاحبان للدعاء هما اللذان يجعلان من الدعاء "مخ العبادة"، بغض النظر عن تضعيف حديث "الدعاء مخ العبادة". المتكبر حقاً وواجباً واحد لا شريك له في كبريائه. فلنكن في حالة إقرار له سبحانه وتعالى بالكبرياء وفي حالة خلو من أي كبرياء في قلوبنا. لقد وعدنا الله، ووعده الحق، بأن يجيب دعاءنا وأن يرفعنا إن كنا في تلك الحالة.
إنما كُتب هذا المقال ليبين معنى الدعاء. فبعد أن رأينا أننا بتنا ندعو ولا يستجاب لنا، كيف لنا ألا نقف وننظر في حالنا؟ إن العلة فينا نحن، لا محالة. نعلم حديث "الرجل يمد يديه إلى السماء يا رب يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له". لكن علينا بعد أن نتأكد من أن مطعمنا حلال ومشربنا حلال وملبسنا حلال أن نتأكد، فوق ذلك، من أن قلوبنا خالية من العجب والكبر. يجب ألا تعتقد أن توخيك الحلال يجعلك مستجاب الدعاء، ولا أن تواضعك يضمن لك الرفعة. عليك أن تشك في حلالك وفي تواضعك على الدوام وإلا دخلت في العجب. من ظن أن مكسبه حلال فقد دخله العجب، ومن ظن أنه تواضع فقد تكبر. أنت تجتهد في الكسب الحلال وفي التواضع دون أن تظن ظناً آثما أنك بلغت الغاية فيهما. وإن أجاب الله دعاءك فلا تظن أن ذلك لأن مكسبك حلال. وإن نلت حظاً من الرفعة فلا تظن أن الله رفعك لأنك تواضعت. إن فعلت ذلك، وقعت في شر ما يصيب القلب: العجب. إنْ أعطاك الله فاخش أن يكون ذلك لمجازاتك في الدنيا، دون الآخرة؛ وإن رفع مكانتك فتأكد أنه يبتليك.
إن إجابة الدعاء الوحيدة التي تبعث الاطمئنان في قلب المؤمن هي عندما يدخله ربه الجنة. حينها يعلم أن الله أعطاه ورفعه وأجاب دعاءه.
----------- * يقصد بالنسخة المعقبة نسخة منقحة من المقال يعيد فيها الكاتب كتابة مقاله على ضوء تعليقات القراء وتصويباتهم، مما بات متاحاً الآن بفضل النشر الإلكتروني.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة