معذرةً لانقطاع مواصلة ذلك الموضوع عن معايشاتي للفساد خلال فترة عملي بالسودان، وذلك لأسباب شغلتني كثيراً، وها أنا ذا أعود لسرد المقطع الأخير في تلك التجارب، وهذه المرة في الاستقلال في العمل والتمويل، أي الأعمال الحرة، والتي سأنشرها في ثلاثة حلقات بعد أن اغلقت الأبواب في وجهي لأقدم عوني لبلادي بما علّمتني من مهنتي وأعدّتني فيها مهندساً، فقد بان لي بأنه لا مجال لي لأقدم لها أيّ خدمةٍ إلا من عملٍ من حر مالي، وإلا فالهجرة تبقى الخيار الأوحد؛ وهذه الأخيرة كنت أعتبرها هزيمة (كما أشرتُ قبلاً في تعليقٍ لي سابق مع الأخ السفير عمر بريدو، لم أكن أسمح لنفسي بالهجرة بأي شكلٍ كان، وخاصةً إذا كانت لحياةٍ أفضل، ولذات السبب وحده كنت قد امتنعتً منذ تخرجي من الهجرة لدول الخليج ولم أفعل كما فعل كل زملائي ودفعتي لجمع المال أما الأعمال الخاصة فهي في واقع السودان عندئذٍ منطقة مقفولة لجماعة معينة، فاحتكارية المنتسبين للإخوان المسلمين لمواقع التجارة والاقتصاد الحي في سياسة "التمكين" المنتهجة، ما هي إلا بقايا مغامراتٍ مرهونة بتبرير الوسيلة للغاية والتي تخالف معايير النزاهة والأمانة. وبالتالي فجميعها سريعة القيادة للفساد. كنت في حيرة من أمري، حتى التقيت الأخ عادل من القسم المالي في سودانير والذي فتّح ذهني على مشروع تحسين نسل الماعز والذي فوق أنه من الأعمال الحرة، هو مشروع إنساني ومجتمعي [بيد أنه تم تحصينه (للتمكين) لمنتسبي الإخوان المسلمين]. نوّرني الأخ عادل بجدوى أعمال تحسين نسل الماعز بكل محيط حرفته وثقافته، وقد أثارت ثقافته الفذة في علوم تصنيف وتربية الماعز إعجابي. وفي حديثي معه في ذلك الوقت، شجعني على الدخول فيها بما أن هنالك فرصة قد سنحت، حيث انكسر فيها سياج الاحتكار التمكيني للجماعة في ظرفٍ طارئ توافرت عنده فرصة للحصول على أحد الذكور الماعز من فصيلة السعانين البلجيكية التي استوردها نفرٌ من الإسلاميين، إلا أنها أصيبت بالطاعون البقري الذي لا يصيب الماعز عادةً، خلاف تلك الفصيلة حصراً بما أنها معرضة للإصابة به؛ والمرض سريع وقاتل. فقرروا بيع ما نجا منها على عجل. وأحجم الراغبون عن الدخول في مغامرة الشراء وقد نفدت نسبة عالية من الذكور بموتٍ سريع، فالمغامرة خاسرة حتماُ، ولكنها حسب نصيحة الأخ عادل تستحق التجربة، لأن خطورتها هي المدخل الذي يوفر الحصول عليها.
فعقدت العزم ل "أعقلها وأتوكل"، وأنه في حال أن نجا السعنون الذي شريناه من مرض الطاعون البقري، يقوم الأخ عادل بالتحرك لاختيار الماعز اللازمة للتهجين، والتي تشدد في أن تكون من مواصفات بعينها والحصول عليها صعب جداً، كما ويقوم بإدارة الشركة، بينما أقوم أنا بتمويلها وتوفير متطلباتها من إشراف بيطري والطعام والمسئوليات التجارية
عقدت العزم لولوج الأعمال الحرة والغوص في فرصة تأسيس العمل تلك والتي توافرت لي لتوفير مثل تلك الفائدة المستحَقّة للمواطن المسحوق وليحمل لواء مساهمة في تعمير بنيانٍ أساسي للمجتمعٍ يملك فيه نفسه ويتأهل لإصلاح اعوجاج أوليائه. إن الأغنام هي رأسمال الأسر الفقيرة، لأنها أغنام تغذي نفسها من النفايات، وبالتالي ضعيفة العطاء كثيرة الأمراض – وأخطرها إبتلاعها المتكاثر لأكياس النايلون التي تخنق أمعاءها فتفقد صحتها وتموت عاجلاً، ولكن في وجود تهجين نقي محمي من ممارسات الغش والفساد، ستكون هناك فصائل مهجنة تنتج ألباناً وفيرة (في تجربتنا هذه كان إنتاج الهجين من 7 إلى 13 رطلاً يومياً، وقد وصل إلي أحد عشر رطلاً في أول حالة وصلتنا نتيجتها، واندفقت علينا محادثات الهاتف من المشترين تدعو لنا بالخير والثواب)، ويسمح إنتاج الألبان بهذا النمط للمالك الفقير لتوفير كيلو الذرة وربطة البرسيم غذاء تلك الغنمة اليومي بارتياح، زد إلى ذلك العائد من أجنتها، فالهجين تلد مرتين في العام، وتلد ما بين إثنين إلى ثلاثة اجنة توائم. ولكن يجب مراقبة الخطر من حصد ذلك الدخل بالجشع، وذلك بحماية وتشديد العزل الوقائي بعزيمة صلبة مع توثيق شهادات للهجين لمنع الخلط والتزوير العيني حتى لا تُفشل ذلك المشروع الهام كما فشل في عهود سابقة منذ عهد حكومة إبراهيم عبود، وتحفظ لمالك الهجين القيمة الحقيقية لهجينه.
قام الأخ عادل بالحصول لنا على ذكر التهجين وقام بالحفاظ عليه بكل متطلباته الصعبة وأهمها توفير الظل البارد وأيضاً ماء الشراب البارد له، وذلك بتوفير الثلج دوماً لتبريد الماء له، كما ومراقبته وحمايته من الاختلاط بأي ماعز لم تدخل الحجر الصحي الذي حدده الطبيب البيطري لفترة أسبوعين للتأكد من خلو الماعز من حمى الرحم، وكذلك للحماية من الديدان والقمل والقراد، ويشمل ذلك الحجر الصحي كل الأغنام التي نقوم بسعيها في المشروع
بعدها قام بجولة للبحث عن الأغنام المطلوبة لذلك المشروع وهي أغنام نوبية أصيلة غير مختلطة الهجين في سلالاتها، لأن ميزتها النوبية هي في قوّتها وفي عطائها الطبيعي لألبانها، وهو أربعة أرطال في فترة أمومتها، وهو أفضل عطاء سلالة في أنواع الأغنام الجبلية الأصيلة والمتواجدة في السودان حينها، ولكن حملها يكون سنوياً، ومولودها في كل حملٍ يكون واحداً أو إثنين على الأكثر، وكان الحصول على مثل تلك الأغنام الأصيلة مستحيل لتمسك ملاّكها بها، ولكن محنة الجفاف والعطش، وتدهور المستوى المعيشي في البلاد، أجبر هؤلاء لبيعها وهي على حافة الهلاك من الجوع والهزال، خياراً أفضل من هلاكها، وبالرغم من ذلك لازال سعرها يعلو على أسعار كل الأغنام للضعف حينها، وكان أربعين جنيهاً للواحدة. وكان يتوجب أن يتم شراؤها وهي حامل، ويعلم أصحاب الأغنام ضرورة ذلك، لضمان خصوبتها. تطلّب ذلك منه بحثاً مضنياً في البوادي وفي مختلف بقاع السودان، حتى أكملنا العدد لأربعين غنمة، وتم تسليمها للبيطري الذي تم تعيينه
أول مشكلة واجهتنا كانت إقبال الكثيرين من الراغبين في أن نسمح بتهجين أغنامهم، وبما أن هذا يضيف عبئاً إضافياً على المشروع، سمحنا لحالات خاصة ممن لهم حاجة ماسة من السكان المجاورين للمشروع أو العاملين فيه، وكان ذلك حتماً يتطلب نظاماً صارماً: أن تعرض الغنمة على البيطري لفحصها، ثم تطعيمها، ثم تركها في الحجر الصحي لديه لمدة أسبوعين يُعطى صاحبها ألبانها خلالهما ويُطالب بدفع تكاليف غذائها، وعندما يتم التهجين، يكون لنا نصف العائد من الأجنة لمقابلة التكلفة الأساسية.
بدأ المشروع وقام الأخ عادل بإدارته، وذهبت أنا إلى مدينة سنار لأبدأ مشروعاً زراعيّاً بمنطقة ود هاشم بسنار الي عشت فيها طفولتي ومعظم حياتي
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة