يؤسس ليفيناس في كتابه الزمان والآخر من ضمن ما يؤسس له العلاقة بين الكينونة والآخر أو بين الذات والموضوع ، ويستفيد من الجدل القديم لتدعيم فكرته التي تؤكد على الفردانية . ويخلق تمييزا محددا في جملته التالية: ""قد يبدو لنا أن العقلية البدائية هزت أساس مفاهيمنا ؛ أذ يبدو أنها تحمل فكرة وجود متعدي. تكون لدينا انطباع أن الذات من خلال التشارك ، لا ترى الآخر فحسب ، بل هي الآخر . وهي فكرة أكثر أهمية للعقلية البدائية من فكرة ما قبل المنطقي أو فكرة الباطني . ومع ذلك فهي لا تحررنا من العزلة. فالذات العصرية لا يمكنها هجران سرها وعزلتها بيسر". إيمانويل ليفيناس - الزمان والآخر ص 40 هذا التمييز الذي ساقه ليفيناس يؤسس للفكرتين اللتين شغلتا الفلسفة المعاصرة وهما الشيوعية (اندماج الأنا بالآخر) ، والليبرالية (عزلة الفرد) . فيبدو واضحا أن الأولى تمثل العقل البدائي بحاجاته الأساسية والجوهرية ، والثانية تمثل العقل المعاصر بتطوره وتعقداته. ورغم أن ليفيناس لا يعترف بأن هذا هو جوهر مضمون الكتاب إلا أن هناك إشارات مقنعة على تأثير النزعة الفردية على المحتوى الفكري له. يحدد ليفيناس الزمان بكون يشتت الكينونة المتناهية في لحظات يقصي بعضها بعضا .. أو ما يمكن أن نطلق عليه (التآكل). ويقول بأن المحاضرات -التي تؤلف الكتاب الهدف منها هو اظهار الزمان ليس كحدث ذات معزولة ، وإنما كعلاقة الذات مع الآخر ، وينفي ماهو سوسيولوجي ويؤكد على تحليل الزمان بمعناه الانطولوجي . وبالتالي فإن التفاعل والانعزال وغيرها من مصطلحات إنما تشير الى الزمان بهذا المعنى الوجودي المحض . ورغم غموض هذا التحديد لمفهوم الزمان إلا أننا نلاحظ أن مجموع ما تخرج به فصول الكتاب هي الفردانية أو التأكيد على استقلال الذات عن الموضوع. في الفصل الأول ، يحاول الفيلسوف تحديد المفاهيم كمصطلح الكينونة الذي يقول فيه: " إننا لا نوجد فرادى أبدا ، فنحن محاطون بكائنات وأشياء نقيم معها علاقات ، كل هذه العلاقات متعدية ؛ أننا مع الآخرين عبر الرؤية واللمس والود والعمل المشترك ، كل هذه علاقات متعدية فإنني ألمس شيئا وأرى الآخر ولكنني لست الآخر فأنا وحدي ، وبالتالي إنها الكينونة بداخلي أي واقعة (إنني موجود). انوجادي هو الذي يشكل العنصر اللازم على الإطلاق.... يمكن للموجودات تبادل كل شيء ماعدا الانوجاد ، بهذا المعنى الكينونة هي الانعزال. وهكذا نستطيع أن نتلمس بدايات خطى الفردانية عند ليفيناس. من ناحية أخرى نحت الكاتب مصطلحا جديدا غامضا وهو "الأقنوم" وهو عبارة عن الحدث الانطولوجي الذي يقلص فيه الموجود انوجاده. وأيا ما كان الأمر فإن ليفيناس يستمر في تجذير العزلة ، فيطرحها مع عدة مفاهيم أخرى .كالعزلة والمادية ، والعزلة والأقنوم. لكن أهم فصل هو الذي عنونه بالحياة اليومية والخلاص وأشار فيه إلى أن العزلة تنتهك كل المحاولات المجتمعية بضراوة ؛ يقول في ذلك: "حتى في ظل نزعة بنائية متفائلة للسوسيولوجيا وللنزعة الاشتراكية يستمر احساس العزلة بالوجود والتهديد ليسمح بتعرية أفراح التواصل والأعمال الجمعية وكل ما يجعل من هذا العالم عالما يمكن الاقامة فيه". ويصبح نقد ليفيناس أكثر وضوحا للمقارنة بين النزعة الاجتماعية والفردية في الفصول اللاحقة ، ويعطي الحق ﻷصحاب النزعة الاجتماعية من انتقاد قلق الموت وقلق العزلة واعتبارهما مجرد ثرثرة كما يعطي ذات الحق لمناهضيهم. ينتقل بعدها الكتاب إلى فكرة التواصل بين الذات والموضوع في مسألة التغذية أو اللذة باعتبار أن هذه الأخيرة هي انبثاق من الكينونة الى الوجود عبر نسيان الذات ومع ذلك فإن هذه الاستنارة لا تؤدي بالضرورة لكسر الارتباط غير الرحيم للأنا بذاتها وبالتالي يعود الى التأكيد على الفردانية في مواجهة الموضوع . ولكن ألا تؤدي علاقة الفرد بعمله الى ارتباط بين الذات والموضوع أو تلامس بينهما؟ يرفض ليفيناس هذا ويقول: "تجد الذات في العمل -أي في الجهد والعناء والألم- ثقل الوجود من جديد . هذا العبء متضمن في حريتها كموجود. العناء والألم والجهد تختزل إليها عزلة الموجود في آخر المطاف". وهذا ما يدعوه إلى الإنتقال الى مبحث العلاقة بين العزلة والمعاناة والموت فيرى أن المعاناة من صلب الكينونة حيث يتوضح من الألم الجسدي " ومن دون لبس.الانخراط في الوجود ؛ففي حين أن باستطاعتنا في الألم المعنوي الاحتفاظ بقدر من الكرامة من خلال الندامة والتحرر بالتالي من هذا الألم ؛ فإن الألم الجسدي في درجاته كافة هو استحالة الانفكاك من لحظة الوجود إنه لا رحمة الكينونة عينها فمضمون الألم يختلط مع استحالة الانفكاك من الألم . لا نعرف هنا الألم بالألم ،لكننا نلح على العلاقة التضمنية المميزة التي تشكل ماهيته. يوجد في الألم غياب لكل ملاذ ، إنه واقعة الانعراض أمام الكينونة . هو مركب من استحالة الهرب والتراجع ،...بهذا المعنى الألم هو استحالة العدم. لهذا ينتقل إلى الموت فهو ليس حاضرا على الإطلاق فعندما يكون الموت هنا ، أكف أنا عن كوني هنا حيث تتوقف الذات عن كونها سيدة الحدث. بعد هذا كله ينتقل المؤلف الى قضية أكثر تعقيدا وهي قضية الإيروس أو الجنسانية ، وهنا يرفض ليفيناس اعتبار أن الثنائية الجنسية كلا. لأن هذا يقودنا إلى طرح الحب كاندماج . بيد أن انفعال الحب يقوم في ثنائية لا يمكن دمجها ... إن الآخر بما هو آخر ليس موضوعا يصبح ملكنا أو يصبح نحن ، بل ينسحب داخل لغزه. وفي آخر الكتاب يفاجئنا ليفانس بالإجابة على التساؤل التالي: كيف يمكن للأنا أن تصبح آخرا؟ وتكون الإجابة : "ذلك ممكنا من خلال طريقة واحدة فقط : عبر الأبوة". ويعلل ذلك بأن الابن ليس حدثا يطرأ علي كباقي الحوادث ، كمثل حزني او محنتي أو معاناتي ؛ إنه أنا.؛ إنه شخص ، كما أن آخرية الابن ليست آخرية أنا أخرى. ولا شك أن تبرير ليفيناس قد يبدو متعسفا حول هذه المقولة ﻷن خروج الابن من صلب الأب يشكل كينونة جديدة قائمة بذاتها وعزلة انوجاد كغيرها ، صحيح أن الرابطة المعنوية أو العاطفية تكون في أشد قوتها إلا أن الانفصال المادي ومن ثم الانطولوجي متحقق بلا أدنى شك. على كل حال فإننا نستطيع القول بأن ليفيناس قد أسس للفردانية مثل جون دوي رغم أن الطرح بين الإثنين مختلف من حيث المنطلقات فدوي ينطلق من منطلقات سوسيولوجية وليفيناس من منطلقات انطولوجية كما أن نزعة دوي اشتراكية ونزعة ليفيناس ليبرالية . ونختم قولنا بأنه من الممكن اعتبار ليفيناس مؤسس للفردانية الليبرالية ؛ باعتبار التأسيس هنا تأصيل لتموضع الذات حول نفسها. د.أمل الكردفاني 24 أكتوبر 2016
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة