إن نظام الإنقاذ، بسنواته السبعة وعشرين العجاف، هو الدرس الذي لن ينساه شعبنا ما كُتب التاريخ بمداد صدق. ذلك أن الديون الخارجية الهائلة التي تراكمت، وكبلت الاقتصاد، وتتضاعف فوائدها عاما إثر عام، لم توجه لتنمية البلد، ولعل الدليل على ذلك يتمثل في التردي الذي آلت إليه أوضاعنا في شتى نواحي التنمية. لا ينتابنا أدنى شك في أن الإنقاذ قد استحوذت على كل تلك الديون، والتي انضافت إليها عوائد النفط حتى إنفصال الجنوب في 2011م، وأنفقتها في التجهيزات العسكرية الأمنية لتشعل الحروب هنا وهناك ضمانا لبقائها في السلطة لأطول أمد ممكن. أكد إيريك ريفز، في مقالته بالواشنطن بوست يوم 16 ديسمبر 2016م، أن الإنقاذ وجدت الدين الخارجي في حدود 13 بليون دولار؛ وقفزت به إلى 50 بليون دولار. بيد أن الفساد بمختلف ضروبه، مما مارسته الإنقاذ وتضلعت به، كان سببا آخر في الخراب العام الذي لا يقارن بخراب سوبا المشهور في تاريخنا. الإنقاذ والفساد صنوان متلازمان. لم تعرف الدولة السودانية فساداً بهذا الحجم طوال تاريخها. يمكننا القول إن الحكومات قبل الإنقاذ قد عرفت الفساد، لكن على نطاق ضيق جداً، ولم يصبح ظاهرة ذات طابع عام تمخض عن تدمير الخدمات الحكومية عن بكرة أبيها. أما الإنقاذ اليوم فقد أقرت بنفسها أن الفساد في عهدها قد تفاقم أمره، ونددت به في أكثر من مناسبة. قام الرئيس البشير بتشكيل آلية لمكافحة الفساد؛ لكن هذه الآلية اخفقت في مهامها لأسباب غير واضحة، ثم أعقبها تشكيل هيئة عليا للشفافية ومكافحة الفساد، وهي كسابقتها، لا تزال متعثرة الخطى ويكتنف الغموض قدرتها على اجتثاث داء الفساد المتفشي في الجسد الحكومي. وفوق ذلك، فإن هذه الهيئة تعتبر عبئاً إدارياً ومالياً ثقيلا، فضلاً عن الإيهام بصحة عزم الحكومة للقضاء على خلل هيكلي يستحيل القضاء عليه بدون تفكيك منظومة الإنقاذ عن آخرها، حجراً حجر. لقد ارتفعت معدلات الإعتداء على المال العام ارتفاعاً مهولاً. وعلى سبيل المثال، أوردت صحيفة «حريات» في 8 ديسمبر 2013م، أن تقرير المراجع العام لسنة 2013م قد كشف أن جرائم المال العام والمخالفات المالية للفترة من سبتمبر 2011 وحتى اغسطس من العام 2012 بلغت اكثر من 175 مليون جنيه. منظمة الشفافية الدولية، من جهتها، ظلت تدرج السودان في ذيل قائمة الدول. وبموجب تقريرها لسنة 2015م، جاء السودان في المرتبة 165 من بين 168 دولة. فما معنى أن تصبح الدولة فاسدة؟ لنأخذ مثلاً بسيطا لنقترب به من الفساد على أرض الواقع. المحظوظون ممن تلقوا تعليمهم قبل الإنقاذ، سعدوا بالخدمات التعليمية المتكاملة وذات الجودة العالية وكان كل ذلك على حساب دافع الضريبة. لقد هُيئت أمامهم كل سبل التحصيل العلمي، من مسكن ومأكل ومشرب وقاعات درس وأساتذة أكفاء، ومكتبات يجرى رفدها بالكتب والدوريات على أساس مستمر؛ ومختبرات ومرافق أخرى تستلزمها العملية التعليمية الجادة. لذلك كانت مخرجات التعليم تواكب حاجة سوق العمل، بمعنى أن الخريج يكون على قدر من الكفاءة يؤهله ليستعيد ما دُفع فيه من ضريبة من طريق الخدمة الرفيعة المستوى التي يقدمها لبلده. ولا غرو أن كان التعليم عندنا يقارن بالتعليم في أرقى الدول وأكثرها تقدماً. وكانت جامعاتنا تنافس أكسفورد وكيمبردج وهارفارد، حذوك النعل بالنعل. أما الآن، وفي إطار جعجعة الإنقاذ بثورة التعليم، وثورة الصحة، وثورة الزراعة، وبمشروع حضاري، وخطط عشرية رُفعت فيها الشعارات عالية أن سنأكل مما نزرع، فقد انتهى كل شيء إلى دمار كامل. حدث ما حدث لأن الموارد المخصصة للقطاعات المهمة في البلد قد تقلصت في مقابل تضخم فاتورة الإنفاق على الأمن وعسكرة الدولة بالمليشيات القاصرة عن المحاربة خارج الحدود. وحدث ذلك أيضاً لأن الموارد الموجهة للقطاعات المهمة، وعلى شح هذه الموارد، قد طالتها يد المفسدين الحادبين على مصالحتهم الذاتية الضيقة. الرئيس السوداني في زيارته يوم أمس لمشروع الجزيرة، قال سنعيده سيرته الأولى. وهلل له الجمع وكبر! ومن حقنا أن نسأله: لماذا قامت الإنقاذ بتعطيل المسار القديم للمشروع، وادخلته النفق المظلم حيث عبث فيه الفاسدون أيما عبث؟ السؤال نفسه نطرحه حول مخازي الإنقاذ الأخرى في السكك الحديدية، والنقل النهري والبحري، والصحة والتعليم وسوق العمل وسلة الغذاء اليومي. فإن كان الرئيس يريد حقاً إعادة مشروع الجزيرة إلى سيرته الأولى، فإن الخطوة المنطقية لذلك هي العودة إلى المؤسسية في تناول الأمر برمته، ولعل المؤسسية تستدعي محاسبة من كانوا وراء تدمير مشروع الجزيرة سواء بالتقاوى الفاسدة أو المبيدات منتهية الصلاحية أو الإجراءات الإدارية الخرقاء أو الصفقات المشبوهة. لا بد من محاسبة هؤلاء واستعادة أموال الشعب إلى خزانة الدولة، ووضع الجناة وراء القضبان دون أمل في مخارج هينة من خلال فقه التحلل الذي فصلوه لإثراء عضويتهم. بدون هذه المحاسبة الصارمة، ورد الأمور إلى نصابها أولا، يصبح الحديث عن إعادة المشروع إلى سيرته الأولى مجرد نفخ في نيران الفساد المتأججة أصلا، وهي نيران يتحمل وزرها من أضرمها ابتداءً وكذلك من زاد أوارها نفخاً أو تستراً. إننا بعصيان اليوم 19 ديسمبر إنما نعلن عن توحيد كلمتنا ضد الفساد. كما نعلن عن صادق النية وأكيد العزيمة على القضاء على هذا الفساد الذي أحال حياتنا إلى بؤس ما بعده بؤس. بهذا العصيان، فإننا نجرب استخدام أقوى أسلحتنا في وجه الإنقاذ، ألاّ وهو سلاح الكلمة الشعبية الموحدة ضد الفساد بكل أشكاله. وبالقضاء على الإنقاذ والتخلص من منظومتها الفاسدة، نستطيع أن نطمئن إلى استعادة سوداننا إلى سيرة أولى مشرفة لنا ولأحفادنا من بعدنا. وسنمضي إلى العصيان المفتوح بعيون مفتوحة وعزم أكيد لاقتلاع الفساد من جذوره التي غرستها الإنقاذ وتعيش على نسغها حالياً.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة