في الفكرة الجمهورية (لمؤسسها الأستاذ محمود محمد طه – المفكر السوداني) الشورى هي وصاية الراشد على القاصر وهي درجة أقل من الديمقراطية. فعند الأستاذ الديمقراطية يبنيها الرجال الأحرار "لا ينجب هذا الرجل (الحر) إلا المجتمع الكامل، وهو المجتمع الذي يقوم على ثلاث دعامات: العدالة السياسية، وتسمى الديمقراطية، والعدالة الاقتصادية وتسمى الاشتراكية، والعدالة الاجتماعية". ونرى أن كل هذه العدالات لا تتحقق إلا بالعدالة الفردية النفسية بتخليص النفوس من حالة الظلم القديم الذي أوقعنا فيه شرك الخروج عن النظام الأول والهبوط عن المقام الأول الذي ابتدره أبونا آدم وأمنا حواء. فالعدالة هي التوحيد في أسمى معانيه.
والمعادلة صعبة جداً فكل ميل إلى اتجاه يفرز مشاكل في إتجاه آخر. فالشورى في السياسة تُنصِّب مجموعة من الناس أوصياء على شؤون الناس. وهذا يقود لدكتاتورية الطبقة الحاكمة. وهنا تتضح ضرورة أن تتوسع الشورى إلى ديمقراطية كاملة. من ناحية أخرى لا يمكن أن تقام ديمقراطية سياسية بدون ديمقراطية دينية ولعل البعض يرجوا بدل الديمقراطية الدينية الشورى الدينية خوفاً من الخروج من النص الذي يصاحب الديمقراطية الفكرية في الدين.
من ناحية أخرى الشورى التي يدعو لها الكثير من الاسلاميين هي فرض رأي الأغلبية (المسلمة) على الأقلية مما يكبل العقول ويخيف النفوس من القول وإن كان قولهم حقاً. لقد اختار الغرب الحرية الكاملة بالرغم من محاذيرها. فالحرية بمحاذيرها أرحم من الدكتاتورية بمختلف صورها ومظاهرها. على كل حال يقول د. ترابي: "الشورى في الإسلام حكم يصدر عن أصول الدين وقواعده الكلية.. . البشر سواسية في العبودية لله". وهذا قول جديد باضافته الشورى الى اصول الدين باعتبارها امر قرءاني وإن كانت مثلها مثل آية الدين لم تعتبر من فروض القرءان كما اعتبر غيرها من الاحكام ولذلك في تراث المسلمين لم تعتبر من اصول الدين.
فأصول الدين بحسب ما هي مفهومة يتفق عليها كل المؤمنين ولكن المجددين لا يتفقون مع المقلدين في تقعيد الأصول التي تقوم عليها تفاصيل الأحكام والتي هي أصول الفقه وفي طريقة بنيان الأحكام عليها. فالناس قد يتفقون في الأصول ولكن لديهم رأي آخر في منهج توليد الأحكام من هذه الأصول وهي نقطة خلاف طبيعي وصحي يجب أن تشجع وتصحح. لأن لا شخص يمكنه أن يدعي الحقيقة الكاملة. يقول محمد شحرور: "كل إنسان فرداً أم مجموعة يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة يصبح مستبداً حتماً وبشكل آلي ولا يبقى أي مجال للحوار معه".
الدين والديمقراطية (2) توجد الآن تيارات قوية في بعض دول العالم الإسلامي تدعوا للتجديد الكامل فيما يعرف بمقاصد الدين وروح الدين. كنا نرجو لدكتور الترابي ان يكون قد أنتج فقهاً سياسياً جديداً يعبر عن تجربة جديدة بعد مفاصلته لحكومة الإنقاذ. أنظر إليه يقول: "لا ينشط الإجتهاد الفكري إلا بالحرية والتفاعل مع المجتمع القديم بركام ضلالاته وبدعياته وسائر الإشكاليات النظرية التي يطرحها واقعه". فهو قد كان قديما يتحدث عن ضلال المجتمع وفي نفس الوقت كان يتحدث عن حرية الاجتهاد، ولكن لمن؟
لم تتمكن أوروبا من تأسيس ديمقراطية سياسية ثابتة إلا بعد أن أسست للديمقراطية الدينية والتي هي ديمقراطية الضمير. ولم تتمكن أوروبا من التخلص من جبروت الملكيات المطلقة إلا بعد أن تخلصت من جبروت تسلط الكنيسة ورجال الدين على ضمير الناس ووعيهم (ملكية الكنيسة). نقلت أوروبا فهم الدين من الطقوس وتصورات اللاهوت إلى مباديء أخلاقية وحكم للضمير.
يقول د. محمد شحرور "المجتمع الإنساني كما يرسمه التنزيل الحكيم مجتمع إنساني مدني أساسه القانون الأخلاقي والصراط المستقيم". الدين جاء ليساعد الإنسان في تأسيس نظام أخلاقي مكتمل في بعده الظاهري وبعده الباطني. فالوجود ليس ظاهر فقط، بل هنالك بعد باطني ومشاكل باطنية تحتاج هي الأخرى لعلاج، والإنسان هو كذلك مكلف بعلاجها. فالنظر الصحيح للمسائل يقوم على الثنائية التكاملية من باطن وظاهر ومن لطافة وكثافة. واحدية النظر هي صفة إبليسية وهي ما سماه المصطلح الديني بالمسيح الدجال، والنظر إما باطني أو ظاهري، مادي أو روحي.
الوعي الابليسي يفكر بطريقة واحدة ظاهرية لا إستدراك فيها ولا تراجع. إبليس إستغل مبدأ المنظور الثاني في الوجود ودخل واحتل واحداً من تلك الثنائيات. ولكن الإنسان يفكر بطريقة ثنائية ويراجع ويتراجع. فالإنسان لديه قابلية للتطور والتجديد والنمو بخلاف عالم الملائكة والجن.
من الممكن عزف الحان عظيمة مختلفة مركبة من مسيرة الدين الكبرى ولكن أجملها وأبقاها هو الذي يسهل على الناس الفهم ويسهل لهم الحياة ويقودهم نحو مستقبل أفضل. يقول الدكتور الترابي: "بين العوامل داخل نفس الإنسان وخارجها وحدة تفاعل.. . فأقدار الله التي وهبت الحرية والقدرة للإنسان وحفظت له أصلاً من الإستقلال والإختيار تحيطه بواقع يؤثر عليه".
عبر هذا التأثير والتأثر بين هذه العوامل والأقدار تسير الإنسانية في إتجاه إقامة ذلك العالم النموذجي، والذي نرى في الديمقراطية الغربية والحريات وحقوق الإنسان إحدى إرهاصاته ومقدماته الجيدة التي يمكن أن تشكل قاعدة عامة يقوم عليها مشروع السماء في الأرض ومنه ينطلق ويتطور ويتحسن نحو تحقيق المثال المرجو.
عن هذا المستقبل الأفضل يقول الأستاذ محمود محمد طه: "التاريخ سيعيد نفسه في الأيام القليلة المقبلة.. . بصورة تشبه من بعض الوجوه وتختلف من بعضه عما كان عليه الأمر في سابقه. .. به يعود ليعتنق كل صغيرة وكبيرة.. . يخاطب العقل ويحترمه". [email protected]
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة