يقول أنطونيو غرامشي في كتابه " كراسات السجن" يقول ( الأحزاب تنشأ و تتشكل كتنظيمات لكي تؤثر في الوضع القائم في لحظات تاريخية حاسمة بالنسبة لطبقتها، و لكنها ليست قادرة دائما علي التكيف مع المهام الجديدة، و العهود الجديدة، أو مسايرة تطور مجمل علاقات القوي في البلد موضوع البحث) إن الصراع الداخلي و الخلاف الذي تشهد الأحزاب السياسية السودانية، ليس خلافا شخصيا، إنما خلافا فكريا و ثقافيا بين عقليتين، عقلية تقليدية عجزت أن تتقدم في أطروحاتها و لا تجدد خطابها بل حافظت علي ما هو موجود حفاظا علي مصالحها، و سدت المنافذ التي تأتي منها التيارات الحديث، هذا الإغلاق جعلها ليس لديها القابلية في الحوار مع التيارات الجديدة، و في ذات الوقت لم تستطيع أن تدافع بمنطق و عقلانية عن مواقفها، لذلك ليس أمامها غير طريق العنف أو طريق الحجر و الطرد من المؤسسة الحزبية، كما حدث في الحزب الشيوعي و في حزب الأمة و الحركات المسلحة و الحركة الإسلامية بكل مكوناتها، و في الأحزاب الاتحادية التي تعددت مسمياتها، و لكناه لم تختلف في ثقافتها، أي تشهد الأحزاب السودانية و الحركات المسلحة بكل لونياتها و مدارسها الفكرية هذا الصراع، و هو صراع لا ينتج معرفة و لا ثقافة جديدة تتماشي مع التطورات و الانفتاح الذي يحدث في المجتمع، من خلال التوسع في التعليم و انتشار الوسائط الإعلامية خاصة الاجتماعية، التي كسرت كل الحواجز، و تجاوزت كل للوائح القائمة علي المنع و الحظر. و عقليات جديدة، تريد أن تنفك من القيود التي وضعتها الشمولية، ليس في نظام الحكم، بل في كل المؤسسات الاجتماعية و الأكاديمية و السياسية، و هي لا تستطيع أن تنتصر في معركتها إلا إذا استطاعت أن تغير الأنماط الفكرية و طريقة التفكير القائمة، و تسهم في تبديل كل الأدوات التي عجزت أن تؤدي دورها كما ينبغي، في إحداث التغيير. إن الأحزاب السودانية التي بدأت تنشأ في أربعينيات القرن الماضي، ظلت كما هي، لم يحدث فيها تغييرا يذكر، فكانت الصفة الغالبة هي المحافظة علي البقاء، و رغم رفعها لشعارات الديمقراطية بصورة مستدامة، لكنها عجزت أن تنزلها علي الأرض، و حتى الأحزاب التي جاءت بعدها و اعتمدت علي القوي الحديثة في المجتمع، و هي قوي متعلمة سارت علي هدي التقليدي، خاصة في قضية الموقف من الديمقراطية داخل المؤسسة الحزبية، باعتبار إن المؤسسة الحزبية من المفترض أن تكون معاملا لإنتاج الثقافة الديمقراطية، و توسيع دائرة الحريات، و الذي يجري داخل هذه المؤسسات هو الذي يخرج للشارع السياسي، الأمر الذي جعل هناك هوة كبيرة بين الشعار و الممارسة، الأمر الذي جعل الأزمة السياسية تتعمق، و ظلت قضية الصراع داخل هذه المؤسسات لا تأخذ الطابع الحواري، و لا الممارسة الديمقراطية، أنما الفصل و الإبعاد، و عندما تتدخل المؤسسة العسكرية في العمل السياسي و الوصول إلي السلطة، باعتبارها قوة تحدث تغيرا في ميزان القوة في المجتمع، تجد هناك من يقف معها دون تردد، باعتبار المنتج الثقافي واحد، و لا تجد أية معارضة، لأن الثقافة التي ينهل منها الجميع هي ثقافة واحدة، و إن تباينت الشعارات. فإذا كانت الديمقراطية، التي يناضل من أجلها البعض لأنها أفضل النظم التي يمكن أن تتعايش فيها القوي السياسية، و يتم فيها التغيير بالوسائل السلمية، و هي سلطة سياسية أنتجها الغرب عبر مسار نضالي تاريخي طويل، بدأ صراعا داخل الكنيسة بين عقليتين، عقلية محافظة تريد استمرار العقلية التقليدية و سيطرة الكنيسة، لأنها تصون و تحافظ علي مصالحهم، و عقلية أخرى تحررية تريد أن تنفك من سيطرة الكنيسة، لكن العقلية الجديدة لم تكتف بالشعارات، بل استطاعت أن تنتج معارفها الجديدة، و ثقافتها جديدة، من خلال استخدام منهج نقدي لمكونات المجتمع التقليدي و ممارسة الكنيسة، هذا الإنتاج المعرفي و الثقافي غير أنماط التفكير السائدة، و غيرت الآليات المعطوبة، و نادت أن تكون العلاقة بين العبد و ربه هي العلاقة المستقيمة، دون تدخل الكنيسة كوسيط، لأنها تستغل الناس و تخدعهم بأنها سوف تقدم إليهم صكوك الغفران، إي إنها تمثل الله في الأرض، هذا التحول جعل الناس تحجم في إرسال أموالهم للكهنة، و تراكم رأس المال عند العامة ساعد الاستثمار في الزراعة و الصناعات الحرفية، عصر النهضة هذا أنتج الطبقة البرجوازية، التي بدأت في أن تقدم أيضا إنتاجها الفكري و المعرفي و الثقافي، بما يسمي "عصر الأنوار" و الذي حطم الطبقة الإقطاعية و كل ثقافتها، لكي ينتج ثقافة جديدة هي التي جعلت الديمقراطية أفضل النظم السياسية الآن. في السودان، رغم أن النخب السودانية مرت بتطورات تاريخية، كانت جيدة، بدأت بتكوين الجمعيات الأدبية، إلي نادي الخريجين، ثم مؤتمر الخريجين، و الأحزاب السياسية، ثم فترة النضال الوطني، و الاستقلال، و نظم سياسية مختلفة، ديمقراطية و شمولية، لكن هذه النخب لم تستفيد من تجاربها السابقة، و ظلت العقلية ذات العقلية دون تطوير يحدث و يخلق واقعا جديدا، و ظلت تنتج أزماتها باستمرار، و يعود ذلك إلي البنيات السياسية التي ظلت تحافظ علي ثقافتها المتوارثة، رغم تغيير الأجيال الجديدة. إن الثقافة السياسية السابقة، هي التي وقفت عقبة في وجه التغيير، و تحديث و تطوير هذه المؤسسات، و ساهمت الحكومات المختلفة علي الحفاظ علي هذه الثقافة، لأنها تخدم مصالحهم، خاصة أولئك الذين يتبنون الفكر الشمولي، كما إن الثقافة تشكل خط دفاع قوي للنظم الشمولية، و هذا الخلل ليس قاصرا علي قوي سياسية بعينها، أنما كل القوي السياسية تعاني منها دون أية استثناء، فهي ثقافة تنتقل من المؤسسات الحزبية الفقيرة في الثقافة الديمقراطية، إلي نظام الحكم عندما تصل هذه المؤسسات للسلطة عبر طرق مختلفة، فالحفاظ علي الثقافة دون إنتاج ثقافة مغايرة لا يساعد علي تجاوز أزمة البلاد السياسية، و لا يمكن خلق أحزاب سياسية ديمقراطية، لكي تغير نمط التفكير و الممارسة السياسية. إن الصراع السياسي داخل المؤسسات الحزبية و الانشقاقات الكثيرة التي تحصل و حالات الإبعاد و العزل و الطرد، هي انعكاس لهذا الجمود الفكري الذي أصاب هذه المؤسسات، من قبل كانت المؤسسات الأكاديمية تلعب دورا مؤثرا و قويا في عملية التغيير السياسي و الاجتماعي، ممثلا في الحركة الطلابية، باعتبارها تمثل القوي الحديث ذات التفكير الحديث، و لكن هذا الدور بدأ يضمحل لسببين. الأول إن القوي المتعلمة خارج دائرة المؤسسات التعليمية أصبحت أكبر من الموجود داخل المؤسسات التعليمة، و أغلبيتهم تم استيعابهم كطابور مدافعا من أجل المحافظة علي السياسة التقليدية، لذلك تجهض دور الحركة الطلابية، ثانيا إن السلطة لعبت دورا كبيرا في عملية احتواء البعض من خلال عملية الترغيب. الأمر الذي أثر سلبا علي القوي الجديدة و علي دورها في عملية التغيير. و القوي السياسية ما عادت تقدم دعما متواصلا للحركة الطلابية، فأصبحت حركة معطلة الطاقات. و ظلت الأحزاب بعيدة عن تيارات الجديدة و الداعية إلي التحديث. نسأل الله حسن البصيرة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة