الإنسان جاء للحياة حراً، جاء بريئا، جاء صارخاً، جاء باحثاً عن حياته، جاء مملؤاً بروح التطلع، والرفض والتمرد على القيود، التي يصنعها الواقع، وواضعي المتاريس في حياته وتطوره، وتطلعه للخلق والتغيير. التغيير الذي لا يستطيع أن يصنعه، إلا إذأ كان حراً، في حياته وخياراته، السياسية والإجتماعية والثقافية والفنية، ومتفجراً بروح النقد والرفض، للدكتاتورية، والظروف والأوضاع والشروط غير المقبولة، والثقافات البليدة البلهاء، التي تسبح بحمد الطغاة، والمعتقدات واليقينيات والمسلمات، التي تريد، أن تفترس، بتعاليمها وأوهامها وخرافاتها، حقه في أن يعيش حراً، بلا قيود، وأن يكون مفكراً وناقداً وصارخاً، من أجل حياة أفضل. فإنه يصبح في نظر، تلك الثقافات والمجتمعات التي تجيد التسيبح والركوع والسجود، أمام الدكتاتورية، معتوهاً ومنبوذاً، ومخرباً، وخارجاً على الطبيعة، والسماء والحياة والمنطق، وخارجاً على تعاليم رجال الدين، والأوصياء والراكعين. ومن ثمَّ عليهِ أن يعاني عذاباً نفسياً وعقلياً وإنسانياً ، ليس لأنه فقط ممنوع من الكلام والحديث، والصراخ والإحتجاج، والرفض والتحديق، بل لأنه يعيش وسط مجتمع خانع للدكتاتورية، مجتمع لا تريده الدكتاتورية، أن يفكر، أو يحتج، أو يرفض، أو ينتقد، أو يتمرد، أو يتغير، أو يثأر لعقله المسلوب، ولحريته التي استباحتها الدكتاتورية، لذلك راحت تذله، بكل الأساليب والأشكال، والوسائل، من أجل بسط سطوتها الغاشمة المناقضة، لمنطق الحياة. موظفة في ذلك كل العناوين في الحياة العامة، من شيوخ قبائل، وطوائف، ودعاة ووعاظ، ومهرجين في المجتمعات مسلوبة الإرادة. الدكتاتورية على مر العصور، وبغض النظر عن الاقنعة التي تتستر بها، تسعى دوماً، لجعل الشعب بلا إرادة وهوية، عبر توجيه كل أسلحتها، ضد كل فئاته، من طلاب وعمال وموظفين، وعسكريين، وشباب وشيوخ، نساء ورجال، لتجعلها نسخ مطابقة لتصوراتها وأفكارها وتوجهاتها. إنها الدكتاتورية اللعينة، مقبرة الشعوب، التي تقتل روح التطلع، والخلق والتجديد، وتحارب الفكر والمفكرين، والمناضلين، والشرفاء.. لذا يتساءل الإنسان المثقف المستنير، من الذي أعطى الطاغية وحاشيته، الحق أن يكونوا أوصياءً وقادةً وأرباباً، كما يشتهون، وكما يتمنّون ويتطلعون، أليسَ هو الخنوع، والإستسلام والخضوع للدكتاتورية، ولتعاليمها ولأفكارها وأكاذيبها..؟ وأليس هو المجتمع الذي تريد الدكتاتورية أن يكون، كما تتمنى وتخطط له، مستخدمة دعاتها ووعاظها ومنافقيها ومهرجيها من كتاب وصحفيين وإعلاميين..؟ وأليس هو المجتمع الذي لا ترغب الدكتاتورية، له أن يفكر يوماً، أو أن ينتقد، أو أن يتمرد، على تعاليمها وخطبها ونزقها المنبري وشبقها الوعظي، المترع بشهوة التسلط والهيمنة، وأليس هو هذا المجتمع الذي أعطى لها كل المبررات لكي تحكمه، وتقوده وتسيطر وتتسلط عليه، كيفما تشاء، وكيفما تشتهي، وكيفما تتخيل، وتتطلع، وتتمنى..؟ لذا يسأل الإنسان المستنير، نفسه مرة، بل مرات، من الذي يقتل في المجتمع، موهبة الرفض والتمرد والنقد والحياة والتطور، ويضع العقبات والمتاريس، حتى لا يعيش في أمن وسلام وإستقرار، ووئام، أليست هي الدكتاتورية، التي تعمل بكل ما تملك لكي تجعله، يعيش حياته، خاضعاً طائعاً مستسلماً، يعيش بلا رأي، بلا إرادة، ينجب أبنائه ويربيهم، هذا إن إستطاع توفير لقمة العيش لهم، ليكبروا ويترعرعوا على حقيقة مطلقة، ويقينية ونهائية تتمثل في أن المعيار الوحيد للأخلاق والفضيلة والحب والصدق والنظافة والكرامة والنبل هو الخضوع للدكتاتورية وشعاراتها المنافقة والتكيف معها ومع شروطها الظالمة وظروفها البائسة، التي تفرضها على الناس، وتضطرهم أن يكذبوا ويغشوا، ويرتشوا، ويخونوا بعضهم البعض، ويخونوا أنفسهم ليغوص البعض في أوحال الفساد، نتيجة اعتقادهم الخاطيء، أن خيانة الذات والمجتمع، هي الطريق المتاح ليوفر من خلاله لقمة العيش لاطفاله... بينما هذا الواقع المزري يقود الإنسان المستنير، لمنابع الوعي النقية، التي تحرر عقله من عقدة الخوف والصمت والخنوع، ليعرف قيمة ثقافة الرفض وموهبة النقد وجمالية الوعي الساخط، ومن ثم يملكها لشعبه بكل وسائل المعرفة والتواصل، لتزداد مساحة الوعي يوما بعد آخر، ويتشبع المجتمع بأفكاره وتوجهاته، التي لا تناقض إرادة السماء التي تقول إن الإنسان ولد حراً، ومن حقه أن يثور من أجل ذاته التي تعمل الدكتاتورية على سحقها، بالفقر والجهل وخلق الأزمات، وشن الحروب، وبث الخوف في الصدور،من خلال الملاحقة، والإعتقال، والقتل المخطط له والاعدامات الجائرة، لكي تجعلها مخلصة لكل ما يربطها بموروثاتها وتراسلاتها التاريخية الزائفة، حتى لو كانت ضد حريتها وحقها في الحياة. بالطبع، إن فهم هذه الحقيقة، تعتبر لحظة إستثنائية في كل شيء، إستثنائية في إنبلاجها وتفجرها، في عقل المثقف، وفي قوتها في حياة المجتمع، وفي زخمها وفاعليتها، وإستثنائية قدرتها،للدفع بالمثقف ومجتمعه نحو التحولات الحاسمة ، إنها اللحظة التي تضعه هو ومجتمعه أمام مفترق طرق، فإما أن يرتفع بنفسه ومجتمعه إلى مستويات الذات المفكرة والناقدة وإلى مستويات الشجاعة والشفافية والصدق والكرامة والعقلانية والحرية والرفض والإنسانية، وإما أن يبقى تائهاً هو ومجتمعه إلى الأبد، في دروب تنكفيء دوماً على نفسها، وتتشظى دائماً عند منحنيات التلاشي والخراب والضياع والوهم والعدم، والموت تحت أقدام الدكتاتورية اللعينة..! الطيب الزين
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة