في مقال الأمس رددت على مقال المهندس عمر الدقير ، الذي عبر فيه عن حزن مقيم على انفصال الجنوب ، من خلال تساؤل جامع مانع يقول فيه: (كيف لوطن تشكل من عناق التاريخ والجغرافيا وتساكن أهله باختلاف مشاربهم زمنا طويلا أن ينشطر مثل كعكة رخوة)؟ وفندت ذلك بحجج دامغة أثبت فيها أن السودان لم يتشكل بعناق التاريخ والجغرافيا إنما تلطخت علاقة شعبيه في الشمال والجنوب بالدماء والدموع منذ أن فرض المستعمر اللئيم وحدة الشعبين دون رغبة منهما كما بينت بالوقائع التاريخية أن الشعبين لم يتساكنا كما زعم الأخ عمر إنما تباغضا وتحاربا وتشاكسا إلى أن تفارقا باستفتاء أجمع فيه أهل الجنوب على عدم رغبتهم في (مساكنة) أهل الشمال والتعايش معهم في وطن وأحد يسمى السودان. أقول للأخ عمر إنه لمن الغريب بحق أن تمرد توريت اشتعل في أغسطس 1955 بينما انفجرت أحداث الإثنين الأسود في ذات الشهر (أغسطس) من عام 2005 أي بعد نصف قرن بالتمام والكمال كشاهد على أن معالجات (البصيرة أم حمد) قصيرة النظر لم تفلح في كبح التمرد الذي تصاعد وتشعب وتمدد بدلاً من أن ينحسر وينتهي فقد وقعت أحداث توريت في أحراش الجنوب بينما انفجرت أحداث الإثنين الأسود في قلب الخرطوم حيث تكرر ما حدث في التمرد الأول وتمت عمليات تطهير عرقي ضد الشماليين لن ينساها سكان الخرطوم الذين احتضنوا الجنوبيين بكرم ودفء يحكي عن نبلهم وسخائهم حين لجؤوا إليهم فراراً من ويلات الحرب المشتعلة في (موطنهم) جنوب السودان. أخي عمر .. أود أن أسألك - وأنت رجل متدين - لم تحرم ما أحل الله تعالى الذي أباح الطلاق عندما تستحيل الحياة الزوجية إلى جحيم لا يطاق؟ لماذا تحرم انفصال شعبين دمرا حياة بعضهما البعض وحطما مقوماتهما ووطنهما وخلفت حربهما دماء ودموعاً واضطراباً وضعفاً اقتصادياً وسياسياً عطل مسيرة السودان الذي كان موعوداً ببلوغ الثريا عشية الاستقلال؟ لماذا تحرم الانفصال بالرغم من الله أحل الكفر به سبحانه وقال جل شأنه (لا إكراه في الدين)؟! أنظر ألى اثيوبيا التي فقدت إلى الأبد ، بانفصالها من اريتريا ، ميناءها البحري الوحيد ..كيف تسير حياتها وشعبها اليوم في تطور ونهضة لطالما فقدتها قبل انفصال اريتريا وتوقف الحرب اللعينة ؟ أنظر إلى روسيا بعد أن خرجت منها عدة دول .. دقق النظر في دول الاتحاد اليوغسلافي .. إنظر إلى الهند وباكستان اللتين أصبحتا قوتين نوويتين بعد انفصالهما عن بعضهما.. لماذا نظل نبكي على وحدة لم نصنعها أو نقررها نحن إنما قررها مستعمر بغيض نكاية بنا وكيدا لنا حيث أراد أن يزرع شوكة سامة في خاصرة السودان لتظل تدمي إلى الأبد؟! أعجب أن يختار شعب الجنوب بالاجماع وبمحض إرادته الانفصال وأن يصوت لخيار الابتعاد عنا كراهية لنا حتى ممن عاشوا بين ظهرانينا لعقود من الزمان .. ورغم ذلك نبكي و(نتنخج) وننتحب على وحدة لم تورثنا غير الموت والدمار والتخلف! لماذا نبكي شعبا أبغضنا وحاربنا واختار أن يفارقنا وعافنا كما يعاف البعير الأجرب؟! ما حدث ويحدث في الجنوب اليوم من حرب طحنت وشردت ولا تزال الملايين من بنيه يقف دليلا شامخاً وساطعاً على أن الجنوب الذي فشل في إقامة وحدة حتى بين مكوناته الإثنية والقبلية أعجز من أن يبقى موحداً معنا أو يصنع سلاماً مع بلادنا ولو ظل معنا فإن الحرب التي ذقنا من ويلاتها ستستمر بل أني أزعم بكل أسف أن الحرب لن تتوقف في دولة الجنوب ما لم تتخذ عمليات جراحية تنهي الأزمة بين المتناقضين من مكوناتها المتناحرة. أقول للأخ عمر الدقير إن (التساكن) الذي زعمت أنه تم بين أهل السودان زمناً طويلاً يدحضه ذلك الانفصال الاجتماعي بين الشماليين والجنوبيين والذي يشهد عليه أنهم عندما كانوا يعيشون بيننا في الخرطوم وغيرها من مدن السودان قبل الانفصال لم تكن أفراحهم أفراحنا كما لم تكن أتراحهم أتراحنا والعكس صحيح تماماً فأي (تساكن) ذلك الذي زعمت أنه كان يسود العلاقة بيننا وبينهم ؟! كيف يتوحد شعبان بلا هوية وطنية تجمعهم ؟ كيف وهم يعتبرون أبطالنا مثل الإمام المهدي والزعيم الزبير باشا مجرد تجار رقيق؟ أي تاريخ مشترك ذلك الذي يمكن أن نضمنه مناهج التعليم التي ندرسها لأطفالنا في الوطن الواحد؟. أختم أخي عمر بالقول إن وطننا لم يتشكل من(عناق التاريخ والجغرافيا) كما زعمت وإنما شكله المستعمر البريطاني لصقا للمتناقضات فقد حكى التاريخ عن علاقة مأزومة يسودها التشاكس لا التساكن والخصام لا الوئام والحروب لا السلام. كانت مصر موحدة مع السودان عبر كثير من حقب التاريخ فلماذا البكاء على وحدة مستحيلة مع الجنوب وليس مع مصر الأقرب إلينا ذمة ورحماً وتاريخاً وهوية فأيهما بربك جديرة بأن تصنع معنا ، إن توحدنا معها ، دولة قوية .. مصر بحضارتها الضاربة في أعماق التاريخ أم الجنوب المتشاكس المتخاصم المتخلف الذي عطل مسيرتنا والذي لا يوجد بصيص أمل في أن يتجاوز خلافاته في المستقبل القريب؟. أقول في الختام إن السودان دولة حديثة التكوين وربك يستر من المستقبل الذي أخشى أن يشهد مزيداً من التمزق والصراع ما لم (تكبر) القوى السياسية وتنظر بتجرد يتجاوز شح النفس (الشخصية والحزبية والقبلية) وتضحي من أجل هذا الوطن العزيز . assayha
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة