بَعض المساجد أمس في خطبة صلاة الجمعة تناولت حادثة احتراق قناة "النيل الأزرق".. وأرجعوا الكارثة لغضب (رباني) على برامجها ومَنهجها المُنفتح.. ولا أظنني بحاجة لمُناقشة مثل هذا الخطاب، فهو بائن الخلل.. لكني ألفت الانتباه لخطابٍ آخر في المساجد يبدو طبيعياً وغير صادمٍ لكني أراه خطيراً للغاية.. لأنّه ينجب الفكر الثوري العنيف.. قبل عدة أشهر كُنت في طريقي إلى مُناسبة اجتماعية في الريف الشمالي لأمدرمان، عندما دَاهمني وقت صلاة الجمعة فتوقفت في أول جامع مُتاح على ناصية الطريق.. الخطيب كان شاباً يبدو عليه خلفية التخصص في العلوم الإسلامية.. كان يستدرج فهماً غريباً للنصوص المُقدّسة.. خلاصة ما يقوله إنّ المرء يولد في الدنيا ليموت.. وما بين المهد واللحد لا يجب أن يفعل المرء شيئاً سوى الاستعداد للموت!! صَحيحٌ مثل هذه المنطق سائدٌ في الخطاب العام للمساجد، بل ربما يفهمه الكثيرون بمُنتهى العفوية إنه ضربٌ من الدعوة للزهد والتعالي على صغائر الدنيا والترفُّع عن الطمع في زينتها ومتعها ومتاعها.. لكني في المُقابل أعتقد أنه يرسي بذرة فكر خطير.. مناقض تماماً لرسالة الإسلام الأساسية. الإسلام دينٌ رفيع المقاصد، يدعو للتنافس في إعمار الدنيا بالقيم الصالحة والعمل المُنتج النافع لكل مفردات الحياة.. فهو لا يأمر بـ(إلغاء الحياة) ولا يدعو للرهبنة واعتزال الدنيا والناس.. والتفرغ للبحث عن وسيلة عبور سريع إلى الحياة الأخرى.. بل على النقيض تماماً في عُهُود الإسلام الأولى تمدد من أقصى الصين إلى أدنى الأندلس، وشهد ذلك الزمان نهضة في كل مناحي الحياة، الطب، الرياضيات، الفلك، الموسيقى، الأدب بأنواعه، وحتى فنون العلاقات الدولية السامية من خلال اتصاله بالإمبراطوريات السائدة.. وفي كثيرٍ من الأحاديث الشريفة إشارات تفضل الإنسان العامل على المعتكف للعبادة.. بل ويرهن الإسلام أسس التفاضل بين الناس في (أحسنهم للناس).. ويكاد الدين كله يتشكّل حول علاقة الفرد بالآخر.. مهما كان هذا الآخر مُختلفاً في دينه ولونه وجنسه وعرقه وحتى الآخر النبات، الحيوان، البيئة.. كل هذه المُفردات اهتم الإسلام بترسيم العلاقة الإيجابية المُنتجة الصالحة معها.. لكن الإمعان في تغذية شُعور (العزلة) و(المفاصلة) بين الإنسان والحياة يستنهض قيم العُنف والإقصاء.. إذ يظن البعض أنّ واجبه المُقدّس هو مُناهضة القيم التي تهتم بالحياة والاجتهاد في دروبها وتطويرها.. لا أطالب بأيِّ قُيود لإدارة منبر الجمعة في المساجد.. فالحرية أوجب مطلوبات الدين.. لكن الأجدر تحفيز الخطاب المُستنير بتقدم المثال والأنموذج المطلوب.. وتسليط الضوء عليه بنقل الخطب الراشدة من مختلف المساجد عبر وسائط الإعلام الرسمية والخَاصّة.. أدركوا منابر الجمعة.. فبعضها ألغامٌ موقوتةٌ.. altayar
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة