تذبذبت سياسة الأتراك بين إتجاه إحياء القبيلة وطمر الطريقة، والعكس. كان الهدف دائماً هو تجريد كل صاحب نفوذ مخالف، قبلياً كان أم متطرقاً. من أجل ذلك سعى الأتراك إلى استمالة الشايقية كحلفاء للنظام وقاموا بتوظيفهم كتشكيلات أولية للـ (السناجك). آثر الأتراك الختمية، ووجدوا فيهم وفي الشايقية مثال الطريقة المندغمة في القبيلة. كانت الختمية بمثابة أقوى كيان يجسّد مفهوم العصبية الروحية المطلوبة للنظام حسب الدورة الخلدونية المعروفة. هيأت سياسة إيثار الختمية والشايقية، هيأت تغلغل النظام الجديد في مناطق شمال وشرق السودان، أدى ذلك إلى نتيجة مباشرة تمثلت في تعاظم نفوذ خلفاء الختمية على نفوذ المشايخ الآخرين في تلك المناطق، بينما كان الصوفية عموماً، على ولاء للأتراك في حروبهم ضد الوهابية داخل وخارج الجزيرة العربية. نشير هنا إلى أن إتهام الختمية بموالاة الأجنبي التركي، يُفترض أن يؤخذ بحذر، حين يُقرأ ذلك الإتهام فى أجواء الظروف التاريخية السائدة في المحيط الإقليمي في بدايات القرن التاسع عشر.. استعان الأتراك ببعض الزعامات القبلية في الإدارة مع تهميش بعض الزعامات التي تمثل النظام السالف والمشايخ والفقرا المقربين من السلطنة ، وتعمدوا تسخير المراغنة، لدرجة إحراجهم أمام قواعدهم، بالنظر إلى سلوكهم مع السيد الحسن الميرغني خلال دوره في إخماد تمرد الجهادية السود في كسلا عام 1865م. على ذلك الأس الإداري المستورد ــ تشكيل هيئة كبار العلماء ــ نشأت وزارة الشؤون الدينية كمؤسسة رسمية تحظى بالرعاية خاصة في عهود الشمولية، ليتبارى علماؤها في تقديم الفتاوي التي تدين أعداء الحاكم مهما كان ظالماً أو مستهزئاً بالدين. مضت التركية السابقة في الاستعانة بالفقهاء في مجالات القضاء، وبسط الظل الإداري الحكومي على الخلاوي، بتقديم الدعم المادي لها، وببناء مدارس ومساجد جديدة. لكن الأتراك لم يفلحوا في ابتداع نظام سياسي وإداري يناسب الواقع، فكانت تجربتهم المركزية استلافاً للتجربة المصرية طُبقت دون مراعاة لتباين البيئة الاجتماعية، بالتالي جاء التعارض مع المزاج القبلي والصوفي السودانى. ذلك التعارض، دفع باتجاه التأليب على النظام، وأدى إيثار الختمية إلى تحريك المشاعر المعادية للأتراك في نفوس أرباب الطرف الأخرى، وبلغت مشاعر العداء ذروتها داخل الطريقة السمانية، التي خرج من رحمها الإمام المهدي مستفيداً من التحشُّد القبلي مناجزاً للأتراك بحمية القتال التي أذكتها سياسة إحياء القبلية. مهما يكن، فان سياسة الأتراك كانت تعبيراً عن واقع اجتماعي هو قيد التشكل تحت مظلة نظام حكم أجنبي يعتد بالعنف. كانت أحذية الجنرالات قد رسمت جغرافيا البلد بفوهات البنادق، وكانت السياسة المتّبعة هي صهر الكيانات الاجتماعية والروحية ليسهل حكمها. وهنا تباين انسجام الربوع مع الوضع الجديد، تبعاً لاختلاف الظروف التي دخلت بها تلك النواحي إلى سياج الدولة، لا سيما وأن الأتراك رموا بثقلهم على مناطق بعينها سعياً وراء قطف ثمار الموارد والحصول على عائد سريع من احتلالهم لربوع السودان.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة