حملت المهدية مفاهيم ورموزاً هيأت مساحة واسعة للاتفاق والتفاهم الجماهيري، فوجد فيها العامة تفسيرات مقنعة لواقعهم ومآلهم.. من المواصفات التي جعلت منها أيديولوجيا جماهيرية تسربلها بالقداسة في مجتمع يدين بثقافة تحمل وعداً بمجيئ المنقذ، المصلح الاجتماعي الذي ينطلق من الدين، ليملأ الأرض عدلاً. بناءاً على ما هو سائد في الوعي العام، وزع المهدي حشده الصغير، استعداداً للمواجهة مع الحكم التركي، تحت خمس رايات كتب على كل راية اسم ولي من أولياء التصوف، في معنى التبرك والاتباع. حملت الرايات أسماء أقطاب التصوف العظام، وهم الشيخ عبدالقادر الجيلاني، والشيخ أحمد الرفاعي، والشيخ إبراهيم الدسوقي، والشيخ أحمد البدوي، وكُتب على الراية الخامسة (لا إله إلا الله محمد رسول الله محمد المهدي خليفة رسول الله). تلك كانت شارة البداية إلى رغبة المهدي في انشاء رافده الخاص، بناءاً على بشارات الصوفية بالظهور. هذا الرباط المعلن بين المهدية والتصوف تهلهل حين ألغى الإمام المهدي الطرق ليتقدم و برؤيته، فكانت المهدية وفق منظوره، إطاراً عقائدياً يبتلع كافة الولاءات الروحية والاجتماعية في القطر، لينطلق بعد تثبيت تلك الرؤية في السودان لنشر الفكرة في كافة الأرجاء. إن سرعة إيقاع الثورة وزخم انتصاراتها أرخى سدوله على العقول، وفي تلك الأجواء الفائرة اختفي الحوار، ولو تفجر الحوار حول المهدية حينها، وقلَّبتها العقول على نار التقصي والتثبت لـ (تفجر الموقف) أنظر: محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ط1،دار الطليعة، بيروت 1985، 100. حارب المهدي معركته الأولى في الجزيرة أبا وفق منظوره بأن المهدية ولاء روحي صميم، لكن المزاج القبلي طغى مع خطوات التجربة، حيث لم يكن هناك وعاء تاريخي يعتمل الحراك داخله غير وعاء القبيلة. بالرغم من ذلك شاعت انتصارات المهدي وسيرته محفوفة بالقداسة، فلم يكن الذهن السوداني يقبل التشابه الواقع بين معركة الجزيرة أبا وموقعة بدر بأنه محض صدفة. كما نظر العامة لهجرات المهدي بأنها كانت تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم. وهكذا، وجدت مواقفه وتحركاته ولغته، أبعاداً في التراث الديني جعل الإيمان به لزاماً على الأنصار. وحدت المهدية قبائل شمال ووسط السودان على شعارات الاستعراب والأسلمة الأمر الذى (جعل جيش الدولة المهدية يعبر عن غزو عربي). أنظر: مقال عوض السيد الكرسني ،النزاعات الأهلية في السودان، مجلة دراسات حوض النيل، العدد 1، الخرطوم، ديسمبر 1999، ص136. كما جاءت الدعوة في قالب اتسم بالتعميم ما جعل الفكرة في متناول الأفراد على مختلف مستوياتهم ومشاربهم، فوجد كل شخص فيها شيئاً يهمه. كانت الدعوة في بساطتها وعموميتها أهدافاً لثورةٍ أتاح لها الظرف التاريخي أن تذاع أخبارها بلسان الشفاهة ليستخرج الناس من إطارها العام الأسئلة وأجوبتها بالإسقاط ونسب كل ذلك إلى قوة الدفع الروحية ممثلة في البشارة وصاحبها. وفي فترة وجيزة حققت تلك الشعارات اتفاقاً رمزياً توحدت به الأطراف لاقتلاع الحكم الأجنبي.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة