كل الموبقات التي كان يترفع عنها المجتمع السوداني، في الزمن الجميل، صارت " عادي، عادي، عادي جداً!" كما تقول أغنية الفنان شاويش.. فلقد دخلنا عصر الانحطاط الاخلاقي مع ظهور جياد الفساد المالي و الأخلاقي في ذلك اليوم من يونيو 1989.. و استأسد الكلاب و التافهون..
قاضٍ يخرج عضوه الذكري لمحامية في مكتبه المغلق.. تزجره بعنف و تخرج دون أن تبلغ.. إنها تعرف أن لا أحد سوف يساندها إذا شكت، و ربما تناقلت الهواتف سيرتها و أصبحت سمعتها على كل لسان.. و أستاذ جامعي يطلب من طالبته مقابلاً كي يكشف لها أوراق الامتحانات، لا تقبل.. و لا تشكو الاستاذ المتحرش! من يصدقها إذا شكت؟.. و مسئول كبير في شركة ما، يطلب من خريجة مقابلَ تعيينها في إحدى الوظائف.. ماذا تفعل غير أن تعود إلى أهلها في حسرة؟ صحفيات يحملن هموم المجتمع و يكشفن سوءات المسئولين، لا يتجرأن على كشف تحرش مسئول بهن ف" القلم ما بزيل بلم"! خاصة و أن معظم المتحرشين مسئولون فوق الشبهات..
عمل نظام الانقاذ، الموبوء منذ طفولة منتسبيه بالأخلاقيات غير السوية و الانحراف الجنسي، عمل على تخريب المجتمع و ممارسة الفسوق و الفجور مرتدياً عباءة الاسلام.. و لا غرابة في أن يُطلق عليهم لقب ( متأسلمون).. و المتأسلمون قد غيروا كل جميل و نبيل في البلد.. عبثوا بالمفاهيم و القيم على مدار 27 عاماً.. و تاهت الأجيال التي تفتحت أعينها خلال هذه الفترة.. تاهت بين القيم الحقيقية لإنسان السودان و القيم التي استحدثها نظام ( الانقاذ).. لدرجة أن المرء من هذا الجيل يعتقد أن طبيعة التعيينات لا تتم إلا بالواسطة.. و أن لا تعيين في الوظائف يأتي عبر المؤسسية..
تفشى التحرش بالنساء في المجتمع بشكل وبائي..
و أَرجع بالذاكرة إلى ما قصة حكاها لي أحد الأصدقاء في مدني الجميلة في الستينيات من القرن الماضي.. حيث قال أنه كان في طريقه من الحلة الجديدة إلى محطة السكة حديد، لم يكن يفكر في البنات اللواتي كنَّ أمامه، و حين عبرهن صرخت فيه إحداهن" أتشي يا عثمان، تشاغل بنات حلَّتك؟!".. أقسم لي أنه لم يشاغلهن.. و أنه كان يسرع الخطى لاستقبال أقاربه القادمين من الخرطوم.. إعتذر للبنات و حكى عذره.. و واصل سيره.. و القصة تعني أن أي حركة عفوية قد تأتي منك تجاه البنات قد تعني ( المشاغلة) في ذلك الزمن الجميل.. لذلك كان الحرص و التأدب معهن هو سيد المواقف.. كما و أنها تعني أن مشاغلة بنات الحي تندرج في مصفوفة الحرام المجتمعية لا يجرؤ أحد على القيام بها سوى الآبقين.. و تغيرت المفاهيم و اندثرت القيم.. و صار التحرش الصريح ببنت الجيران، الحيطة بالحيطة، " عادي.. عادي.. عادي جداً!"
ياخي!
تخيل ابنتك أو أختك.. أو إحدى قريباتك أو معارفك، وقعت في مصيدة التحرش على مرآى منك.. ماذا كنت ستفعل مع المتحرش في زمن التفاهة و ( الانقاذ)؟.. أنا أعرف ما كنتُ سأفعل! أنا أعرف!
الزمن يتمدد و العطالى يملأون الدروب.. و عادي جداً أن تعلم أن خريجة قضت سنوات بلا عمل.. قرأت اعلاناً عن وظيفة تناسب مؤهلاتها.. جهزت أدواتها- وفق الشروط المعلنة- ركبت المواصلات.. جلست و بقربها أحدهم.. عادي جداً أن يتحرش بها.. و إذا زجرته بصوت عالٍ، هاج فيها المتحرش.. و رماها بالإثم، و ربما لامها الركاب ( الرجال).. لذلك تجدها مضطرة لتغيير مقعدها، إذا وُجد، أو وقفت ( شماعة) حتى المحطة الأخيرة.. و عند بلوغها مكتب التعيين يستقبلها المسئول ببشاشة، عادي جداً،.. و سرعان ما يضع المتحرش شرطاً ( مقابل التعيين) .. شرطاً غير موجود ضمن الشروط المعلنة..
قالت لي المحامية المرموقة، و أنا أثق في قولها، أن شركة للهواتف ( سوداني الكيزان) أردأ الشركات عند الحديث عن التعيين مقابل الجنس.. حيث أن أحداً من طبقة المتأسلمين ( الوسيطة) بعث بابنته إلى ( الأخ) المسئول عن التعيينات ل( المعاينة)، فبدأ المسئول يتحرش بها.. و يلمِّح إلى ( المقابل).. أطفأ النور.. أسرعت البنت بإضاءة النور.. فتحت الباب باكية لا تلوي على شيئ، لتحكي القصة لوالدها و لتلك المحامية المرموقة..
السيدة ( س) من سيدات الأعمال السودانيات اتصلت بقريبها المسئول بنفس الشركة الكائنة في ما يسمى حالياً بالسوق العربي، طالبة منه تعيين ابنة صديقة لها ( مهندسة) خريجة بمرتب الشرف الثانية ( الأولى)، فطلب منها أن تأتيه البنت بشهاداتها.. ذهبت البنت و سلمت الشهادات المطلوبة.. و بعد يومين، هاتفت السيدة ( س) قريبها المسئول فقال لها:- " أُعينها مقابل شنو؟"، فاشتطت السيدة ( س) غضباً و أمطرته بوابل من الكلمات الجارحة و هددته بإبلاغ الأمر إلى أبيه.. و أغلقت خط الهاتف..
و مأساة بالنسبة إلى كل ( مناضل) أن ثمة ( رفيق) كان متورطاً في استغلال النفوذ لقهر الضعيفات المهمشات السودانيات جنسياً بوزارة الاستثمار.. حيث أن ذلك المناضل كان وزيراً متميزاً في أدائه ، لكنه تورط أخلاقياً بما لا يليق بأمثاله من الذين عرفتُ.. ربما لأنه ( آبق) بكل حرفية الكلمة.. شغل ( الرفيق) ( الكُومَرِد) المنصب أوائل اتفاقية السلام الشامل.. و أحدث من التحرشات الجنسية ما لا يغتفره له ( الرفاق) الشرفاء.. و عند مجيئي للوزارة سرد لي أحد المقربين منه عن غزواته المكتبية بفخرً مأخوذ من فخر الشاعر نزار قباني بفروسيته و غزواته:- ".. لم يبقَ نهدٌ أبيضٌ أو أسودٌ إلا رفعتُ بأرضه راياتي.. لم تبقَ زاويةٌ بجسم جميلةٍ، إلا و مرت فوقها عرباتي.. فصَّلتُ من جلدِ النساءِ عباءةً و بنيتُ أهراماً من الحلماتِ..."..
وا ضياع النضال يا ( رفيق!).. لن نغفر لك ذلك.. لن نغفره..
و تتداول الصحف الورقية و وسائل التواصل الاجتماعي موضوع التحرش الجنسي في السودان.. و هو موضوع من المواضيع المسكوت عنها رغم معرفة الجميع بوجوده الكثيف.. و قد سلطت الأضواء عليه الصحفية الجريئة فاطمة غزالي.. و جاء الصحفي الجرئ زهير السراج ليظهر حجمها في منظار من ( مناظيره) و يسلط الأضواء على "..... تعرض الفتيات والنساء، لابتزاز جنسي رخيص، خاصة فى أماكن العمل، بل ودور العلم، ومن اشخاص لا يمكن لأحد ان يشكك فى اخلاقهم او سلوكهم بسبب الموقع المهني او الوظيفي الرفيع، او السن، ولقد عملت أكثر من عشرين عاما فى التدريس الجامعي، وأعرف الكثير مما تتعرض له الطالبات من بعض زملائهم، او الابتزاز الرخيص من بعض أساتذتهم لتقديم خدمات مثل النجاح وتحاشى الرسوب".. إنتهى..
و يتحدث الدكتور عن تفشي ظاهرة سوق الامتحانات بما يعني كشفها بمقابل .. و أنا شخصياً أعرف ما يدور في جامعة ( أهلية) عريقة.. حيث تُمارس الطقوس في تلك الأسواق وفق ما ذكر الدكتور/ زهير بالحرف.. فهي تمارس كما يمارس باعة بعض اللحوم الفاسدة في أسواق ( أم دفسو) في الأحياء الشعبية.. و موسم الامتحانات موسم يزدهر فيه بيع أوراق الأسئلة بثمنٍ.. و الأجوبة على الأسئلة بثمنٍ آخر لبعض الطلبة و الطالبات غير المجدين و غير المجدات من المنعمين.. و سوق للتحرش الجنسي للطالبات، خاصة الفقيرات..
يدخل الطالب/ الطالبة قاعة الامتحانات بثقة، و يتفوقون دون بذل جهد فبذل المال أو الجنس يكفي.. المال قوة دفع للشباب و الجنس/ المال قوة دفع للشابات لعبور عوائق و حواجز التفوق في الامتحانات.. و من تتلكأ في تقديم الجنس أو المال للمتنفذين، تسقط أو تفصل من العمل..
ظللت أتابع الأمر عن كثب.. و أحس كل مرة بالعجز.. و هناك طالبة اشترت ورقتي الأسئلة و إجاباتها.. عرضت على زميلة لها الورقتين.. دخلتا الامتحان.. نجحت من اشترت الأوراق.. و سقطت صديقتها..!
محن سودانية يا شوقي! .. محن سودانية صارت في زمن التافهين " عادي.. عادي؟؟ عادي جداً"!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة